ماذا يمكن أن يضيف «متحف أورسي» في معرضه الجديد عن الملّون الأكبر فان غوغ؟ بخاصة بعد جحافل عروضه في المواسم الباريسية الأخيرة. وبخاصة أن المشرفين عليه اقتصروا في العرض على ست وأربعين لوحة فقط من أصل مئات، فقد عرف هذا الفنان بتخمة إنتاجه و «تفريخه» للوحات، نجده منذ بداية سيرته الفنية عام 1886 عندما أقام بباريس برعاية أخيه ثيو، نجده ينتج خلال سنتين أكثر من مئتي لوحة ما خلا الرسوم والأعمال التجريبية غير المكتملة. أستدرك هذه الملاحظة التعميمّية، فمن تهيأ له زيارة المعرض يصعقه دهشةً أصالته واختلافه عن المعارض الاستهلاكية المذكورة. فمحور العرض يتجاوز إثارة عنوانه، هو معرض مقارن بين مبدعين يتوازيان، أحدهما الشاعر والمسرحي ارتو، يتقاطعان ونادراً ما يتناقضان، دعونا نبدأ من سيرتهما الحياتية في هذا التلّون المتوحّد، على رغم الفارق الزمني بينهما، فالصداقة التوأمية في هذا المقام فرضية وليست واقعية. تجمعهما وفق تعبير آرتو «لعنة المجتمع»، ويذكر المثل الألماني: «الأعمى لا يقود الأعمى إلا إلى الهاوية». فان غوغ ولد في أمستردام (هولندا) عام 1853. وتوفي في آرل (فرنسا) منتحراً برصاصة في الصدر عام 1890، في حين أن الشاعر أرتود مولود في مرسيلية عام 1896 وتوفي في باريس بالسرطان عام 1948. درس فان غوغ الفنون في بروكسيل عام 1880 بعد تخبّط تعليمي ظاهر، ليستقر بعد ست سنوات في باريس برعاية أخيه ثيو مدير الغاليري الأولى التي عرض فيها، هو أقرب الناس إليه، وتعتبر رسائله إليه (الموثقة في كتاب معروف) بمثابة وصية نقدية تكشف عمق محنته الملحمّية ورهافته الحسية وريادته التعبيرية في اللون البسيكولوجي المأزوم. ناهيك عن أهمية ملاحظاته التشكيلية النقدية التي تكشف ثراء ثقافته الفنية. يؤلف فناننا في تلك الفترة تجمعاً مع بول غوغان وإيميل برنار، وآخرين. هي المرحلة الأشد خصوبة في عدد اللوحات المنفلتة من أي عقال، وضمن حرية بركانية أخصبت ألوان الفن المعاصر، وقادت تياراً مستقلاً عن التعبيرية الأولى الألمانية (ماكس بكمان وغروز وسواهما) إلى تعبيرية ثانية مقتصرة في مناخاتها الإحباطية على العلاقات اللونية فقط، ثم تتضاعف أزمته عندما يستقر في آرل وينفجر خلافه مع صديق عمره غوغان فينفصلان، ويقطع أذنه اليسرى عام 1888 في إحدى نوبات الصرع التي كان يتفاقم تواترها يوماً بعد يوم. وفي كل مرة يدخل فان غوغ برعاية محبيه إلى أحد المصحّات النفسية أو مستشفيات الأمراض العقلية، فيعالج بالصدمات الكهربائية، هي التي تنبه الصحوة العصبية قسرياً ولكنها ترسّخ الانتكاس المرضي، ناهيك عن اختلاط المرضى بشتّى نسب إصابتهم مما يعزل المريض عند المجتمع، ويؤكد هموده وتوحده وذهانه العصابي. نعثر وبشكل مثير على مرآة لهذه السيرة الملحمية المأزومة لدى العارض الثاني الشاعر آرتو، فقد قضى أغلب أيام حياته زائراً في هذه المستشفيات. يعتبرها في كتاباته مؤسسات تعكس المرض العضال في المجتمع وهو النفاق. يؤكد في كتابه عن فان غوغ (انتحار المجتمع)، بأن فناننا أبعد ما يكون عن الجنون، ويعتبره متفوقاً في الذكاء الإبداعي، وبأن النفاق الاجتماعي لا يحتمل صوته كشاهد صادق على الحقيقة. لا شك في أن هذا أيضاً ينطبق على شاعرنا، لأنه يرى في فان غوغ مرآته الداخلية، ونموذجه الأعلى في ملحمة التصدّي لحقيقة الوجود. وإذا كان آرتو عرف كشاعر سوريالي (هذياني) لتحالفه مع أندريه بروتون وبتأسيسهما المشترك في حي الشانزيليزيه «مسرح العنف»، فإن لوحاته تعرف للمرة الأولى هكذا على رغم أن أعماله موزعة في متاحف بما فيها متحف الفن المعاصر في مركز بومبيدو. بما أنه يرى في مرآته فان غوغ (الذي صور وجهه في أربعين لوحة) فإن فان غوغ وفق الرأي النقدي لآرتو يرى في مرآته حقيقة ذاته المتهافتة والمتحرقة شوقاً إلى سعير النار والنور ووميض الشمس ووهج البراكين. هو ما يفسّر وضع يده على شمعة أمام حبيبته. يعتبر آرتو أنه بصبوته الاقتراب الأقصى من حرائق فان غوغ فهو يقتصر على رسم وجهه في المرآة. وعلى رغم أن رسومه القلميّة لا تقل في صدق معاناتها عن فان غوغ، فهي رسوم ينجزها شاعر مأزوم. في حين أن سر عبقرية فان غوغ تقع في صراخ ألوانه الحديثة. فهو يصرخ باللون في وادٍ أصم. وهنا ندرك مدى اقتراب نقد هذا الشاعر الحساس من فان غوغ بخاصة في تعليقه على مجموعة لوحاته التي سبقت انتحاره وموضوعها: سهول القمح وأسراب طيور الغربان، يقول: «أصيخ السمع دوماً إلى أجنحة هذه الغربان، وهي تصفق طبول الأرض، تلك الأرض التي لم يعد فـــان غـــوغ يتعايش معها وفيها، لذلك آثر الهروب منها والموت». يحيلنا هذا النقد الفني إلى إعادة تأمل المعرض ومناخات فان غوغ اللونية، أما الخطية فقد استحوذ عليها بقوة شخصيته وميراث الإستامب الياباني بخاصة المعلم هيروشيج، لذلك كرس المخرج كيروساوا لإحدى لوحاته (التي تمثل جسراً يابانياً) جزءاً من فيلمه عن الأحلام. وكما أنسن فان غوغ هذا الجسر فقد أنسن شتّى الجمادات والزهور والطبيعة الصامتة، بخاصة كرسيه وزوج أحذيته الهائمة على وجهها وقدرها.
مشاركة :