يشير بحث جديد إلى أن ثمة مرضى يفقدون وعيهم جراء حادث ولكن مع ذلك يبقون يتمتعون بوعي يفوق التوقعات، وتتحسن فرص تعافيهم رغم إصاباتهم البالغة. باختصار، بدأ علم الأعصاب يغيّر معنى الحالات «الميؤوس منها». يتمتع دماغ الإنسان بقدرة كامنة على التعافي. فيما يلي قصة شاب يدعى ديلان ريزو تعرّض لحادث أليم ولكنه عاد من بعيد. تغيرت حياة الشاب ديلان ريزو البالغ من العمر 19 عاماً بتاريخ 28 ديسمبر 2010. كان ديلان شاباً مرحاً ونحيلاً وطويل القامة ويحب الرياضة ويلعب الهوكي ويشارك في المباريات باسم مدرسته الثانوية في ماساتشوستس. في الساعة الثامنة والنصف من مساء ذلك اليوم، كان ديلان يتجه إلى منزل صديقه لمشاركته ألعاب الفيديو. اتصل بوالدته كي يسألها عن جهاز التحكم الخاص باللعبة، فعاودت الاتصال به بعدما وجدت الجهاز لكنه لم يردّ. بعد لحظات، اتصل بها صديقه وأخبرها بوقوع حادث. اليوم الأول وجد المسعفون ديلان فاقداً للوعي وبالكاد كان يتنفس. اصطدم بعمود ولم يكن يضع حزام الأمان. احتاج المسعفون إلى ثماني دقائق لسحبه من السيارة ولم يستطيعوا إدخال أنبوب التنفس خلال رحلتهم التي دامت 29 دقيقة إلى بوسطن بسبب وفرة الدم والتمزقات الجلدية الهائلة. في مستشفى ماساتشوستس العام، خضع للتصوير المقطعي ودخل سريعاً إلى غرفة الجراحات حيث نزع جراحو الأعصاب القسم الأيسر من جمجمته وجزءاً من القسم الأيمن لوقف النزف الدماغي في مناطق متعددة. عند نقله إلى قسم العناية المشددة، كان وجهه متورماً وعيناه مغلقتين ورأسه ملفوفاً بالضمادات وجسمه مغطىً بالإبر ووُضِع له جهاز للتنفس الاصطناعي. تهشّم وجهه وكُسرت ساقه اليسرى ودخل في غيبوبة عميقة. لتقييم فرص نجاة ديلان، اتكل الأطباء على جداول زمنية نموذجية لتحديد العلاجات المناسبة بحسب تقييهم الأولي، لكن اعترف أطباء الأعصاب بصعوبة تقييم الوضع وتطبيق معايير نموذجية لأن كل مريض يختلف عن غيره. اليوم الثاني كان وضع ديلان حرجاً ومستقراً في آن. في قسم العناية المشددة، يعني مفهوم «الوعي» أن يكون المريض مستقيظاً ومدركاً، فيما تعني الغيبوبة أن يفقد الشخص هاتين الصفتين معاً. وفق أحدث الاكتشافات، تكون اضطرابات الوعي حيوية ويستطيع المريض أن يعود من الغيبوبة عبر سلسلة من المحطات البارزة. اليوم الخامس في قسم العناية المشددة، شغّلت عائلة ديلان لائحة بالمقاطع الموسيقية المفضلة لديه على جهاز «آي بود» مع أن بعض الممرضات اعتبرن أنه لا يحتاج إلى أي حوافز. على المستوى العصبي، تشبه الغيبوبة النوم العميق. يكون الدماغ غير النشط خامداً وينتظر دفعة تحفيزية من مُولّد داخلي. يكمن ذلك المولّد في عدد من «نوى اليقظة» في جذع الدماغ ويكون عبارة عن عناقيد من الخلايا التي تبدو أكبر من حبوب الملح بقليل. حين يكون الشخص واعياً، تشكّل تلك العناقيد جهازاً لتنظيم الأعصاب وتحافظ على اليقظة ثم تنقلنا إلى حالة النوم. تسيطر تلك المنطقة نفسها على وظائف لاإرادية أخرى في الجسم كالتنفس وضربات القلب وتنظيم الحرارة. أشارت طريقة تنفس ديلان بعد الحادث إلى اختلال وظيفة جذع دماغه، ما قد يمنعه من الاستيقاظ. لم يستطع الأطباء التأكد من هذه الفرضية قبل تصوير دماغه بالرنين المغنطيسي حين يستقر وضعه. اليوم الثامن يوم تقرر إجراء التصوير بالرنين المغناطيسي، طلب طبيب الأعصاب إجراء اختبار اسمه «مقياس التعافي من الغيبوبة». فتح عينَي ديلان بحثاً عن مؤشر على التعقب البصري لكنه لم يجد شيئاً. سجّل ديلان نقطة على مقياس مؤلف من 23 نقطة. ثم جرى استدعاء اختصاصي في إعادة تأهيل الأعصاب لاستشارته حول وضع المريض. كان الأخير يحذر من إطلاق أحكام متسرّعة بشأن الصدمات الدماغية. في دراسة كندية، ذكر الباحثون أن ثلث المرضى الذين دخلوا إلى قسم الطوارئ نتيجة إصابتهم بصدمات دماغية ماتوا. لكن مات نصفهم خلال أول 72 ساعة وسُحِبت منهم أجهزة الإنعاش في مرحلة مبكرة، ما يشير إلى اعتبارها حالات ميؤوساً منها منذ الأيام الأولى. لكن لا تتضح فرص نجاة أي مريض قبل مرور وقت طويل نسبياً. تشير أحدث البيانات إلى تحسّن فرص النجاة إذا أظهر المريض أي شكل من الوعي خلال 60 يوماً. حين شاهد الأطباء نتائج التصوير بالرنين المغناطيسي صُدموا من حجم الضرر. خلال حوادث السير، تُحدِث الضربة ضجة صاخبة داخل الجمجمة وتُمزّق الأسلاك التي ترسل الإشارات من منطقة دماغية إلى أخرى. أشار الفحص في هذه الحالة إلى تمزق الأسلاك في كل مكان، لذا بدت فرصة التعافي ضئيلة. اليوم العاشر جلس أفراد عائلة ديلان مع الأطباء الذين عرضوا أمامهم الفحوص وأكدوا لهم تضرر 90% من المنطقة التي كانوا ينظرون إليها. كان العامل الإيجابي الوحيد في حالة ديلان يتعلق بشبابه. بعد مغادرة الأطباء، قرر أفراد عائلته ألا يخبروا أحداً بحقيقة الوضع رغم صدمتهم وحزنهم، بل أصروا على بذل قصارى جهدهم لأجل ديلان. اليوم 15 اتّصل ديلان بشبكة من الأقطاب الكهربائية لمراقبة نشاطه الدماغي. لم يخترق أي حافز ظلمته العصبية لكن لم يمنعه هذا الوضع من إظهار نشاط حاد في الجهاز العصبي الودّي: في معظم الحالات، يتعرّض المصابون بصدمات دماغية لتعرّق مفرط وترتفع حرارتهم ويحركون أطرافهم بدرجة طفيفة. يسبّب اضطراب آخر عطشاً حاداً وتبولاً مفرطاً. كان والدا ديلان يقرآن له الرسائل على أمل بأن يصحو قريباً. اليوم 17 فتح ديلان عينيه أخيراً! انتقل من الغيبوبة إلى حالة من فقدان الوعي اليقظ، ما يعني أنه يفتح عينيه من دون أن يستيقظ دماغه. بدأ جذع دماغه يرسل النبضات إلى بقية المناطق الدماغية لكنه لم يستعد وعيه بعد. طوال عقود، اكتشف الباحثون أدلة على غياب مؤشرات الوعي السلسة في حالات مماثلة، لذا اقترحوا فئة جديدة اسمها «حالة الحد الأدنى من الوعي». تسمح التقنيات الجديدة للباحثين برصد النشاط الواعي لدى المرضى الذين لا يُظهِرون مؤشرات واعية وتشير الدراسات إلى أنّ 30 أو 40% من الأشخاص الذين يُعتبَرون فاقدي الوعي يحافظون على مستوى معيّن من الإدراك الواعي. اليوم 25 عند مراقبة صراع المريض لاستعادة وعيه، تتعلق مشكلة بارزة بالفجوة القائمة بين خبرة الأطباء الذين يراقبون المريض بشكل متقطع وبين ملاحظات أفراد العائلة الذين يبقون بالقرب منه لساعات طويلة ويرون أدق التفاصيل من دون أن يجيدوا تفسيرها. تناوب أفراد عائلة ديلان على مراقبته على مدار الساعة ولم يفارقوه مطلقاً. اليوم 27 كان ديلان ينتفض منذ أيام وراحت أمه تمسح العرق عن جبينه، ثم حصل أمر لافت: حين أرادت مسح جبينه، رفع يده. وحين رفعها للمرة الثانية، وضعت المنشفة في يده وطلبت منه أن يمسح وجهه بنفسه، فبدأ يمسح فمه وأنفه. اليوم 33 خلال الأسبوع الخامس، بدأ ديلان يُظهِر مؤشرات إضافية على إدراكه العالم الخارجي. راحت عيناه تلاحقان مرآة متحركة. وحين قرص الطبيب أظفاره، حاول إبعاد يده. انتقل بكل وضوح إلى حالة الحد الأدنى من الوعي، ما يعني تحسّن فرصة تعافيه. اليوم 43 كيف انتقل دماغ المريض إلى حالة الإدراك الواعي؟ تشير البحوث إلى تجدد الوعي حين تحتكّ المناطق الدماغية التي تتلقى المعلومات الحسية بالفصوص الجبهية التي تفسّر تلك المعلومات وتتجاوب معها. عندما انتقل ديلان من قسم العناية المشددة إلى غرفة عادية، شغّلت له عائلته التلفزيون عند عرض برامج كان يحبها كمباريات كرة السلة. وحين تعارك الفريقان في الملعب، انتفض الشاب من دون أن يزيح عينيه عن الشاشة. كان يحرك فمه وكأنه يحاول التكلم. اليوم 44 طلب الأطباء إجراء فحص ثانٍ عبر التصوير بالرنين المغناطيسي وأشار المسح الدماغي إلى بدء تحسّن الأسلاك المتضررة. تزداد قوة مسار التعافي في الدماغ الشاب أكثر من الدماغ المُسنّ، وبرزت في أحدث البحوث أدلة على احتمال أن تُنشّط الإصابة الحادة آليات التطور العصبي التي تُستعمل في العادة خلال الطفولة. اليوم 45 مرّ ديلان بحالة متقطعة من الوعي وفقدان الوعي. بدا يقظاً حيناً وضائعاً أحياناً. حين جلبت له والدته جهاز التحكم الذي طلبه في يوم الحادث، راح يحدّق به لبضع دقائق، ثم بدأ يضغط على الأزرار ويحرّك عصا التحكم. لكن حصل أهم إنجاز في نظر عائلته حين نفخ والده في أنبوب مطاطي وأصدر صوتاً مضحكاً، فضحك ديلان. لم تكن ضحكته في نظر أهله مجرّد مؤشر على الوعي بل على شخصيته الكامنة. بعد ذلك، جاء معالجون فيزيائيون لمساعدة ديلان على النهوض، فخطا بضع خطوات باتجاه والده. حين تواجه الأب وابنه، تمكّن ديلان من التقدم كي يعانق والده. راح يمرر يده على ظهره ثم ربّت على كتفه. عكست هذه التفاعلات العاطفية مؤشرات أخرى على تجدّد وعيه. في اليوم التالي، تدهور وضع ديلان وبدأ الحديث عن إعادته إلى قسم العناية المشددة. اليوم 60 في نهاية شهر فبراير، نُقل ديلان إلى مستشفى إعادة التأهيل. كان لا يزال في حالة الحد الأدنى من الوعي ويستطيع الجلوس في سريره بمساعدة الآخرين. كان بإمكانه أيضاً أن يجيب عن الأسئلة بطريقة غير شفهية وبدقة تصل نسبتها إلى 75% وكان ينفذ الأوامر التي تُطلَب منه في 40% من المرات. اليوم 65 أصبح ديلان كثير الحركة وبدا مضطرباً. أصيب بنوبات من التصلب العضلي اللاإرادي وسرعان ما أصبح الألم لا يُحتمل. بعد ذلك، علّق الأطباء صماماً للتكلم على أنبوب التنفس كي ينطق. أول ما فعله ديلان كان البكاء! اليوم 97 بدأ ديلان يبلي حسناً. تشبه إعادة تأهيل الدماغ الذي يكون في حالة الحد الأدنى من الوعي استرجاع الطفولة. تعلّم ديلان مجدداً النشاطات الأساسية، أي طريقة الوقوف وارتداء القمصان. كان يشارك بكل نشاط في بعض الأيام ويفقد تركيزه في أيام أخرى. اليوم 142 ساعدت الممرضات ديلان على الوقوف أمام المرآة وكتب عبارة صغيرة عليها، ثم استعمل ممحاة لمحو جزء منها بإيقاع سريع بالنسبة إلى وضعه. اليوم 198 بلغ ديلان مرحلة ارتباك ما بعد الصدمة. تعرّف إلى كلبه لكنه لم يحدد الزمن أو السنة التي يعيش فيها. تمكّن أيضاً من توجيه كرسيه المتحرك إلى الخارج لكنه لم يعرف مكان وجوده. أشار التصوير بالرنين المغناطيسي إلى متابعة تعافي المادة البيضاء في دماغه لكنه بقي تائهاً على بعض المستويات. حين كان يشاهد أفلاماً يحبها، كان يضحك ويتفاعل في الوقت المناسب. اليوم 208 اجتمع الأطباء والمرضى والممرضون في مكتب الاستقبال لتوديع ديلان. يظهر الأخير في أحد الفيديوهات وهو يجلس على كرسي متحرك ويلوّح بيده ويبتسم. استعاد الابتسامة التي كانت تُميّزه قبل الحادث لكن كانت حركة التلويح بطيئة. كان ذلك اليوم أول ما يتذكره ديلان منذ وقوع الحادث. قال لاحقاً: «شعرتُ بأنني كنت نائماً ثم عدتُ إلى الحياة فجأةً. شعرتُ بأنني حي في آخر يوم لي في مستشفى إعادة التأهيل». قبل مغادرة المكان، قال أول كلمة منذ الحادث أيضاً. اليوم 271 أمضى ديلان شهرين في مركز آخر لإعادة التأهيل قبل العودة إلى منزله، ثم بدأ يسير بمساعدة جهاز المشي وتمكّن من صعود بعض السلالم لكنه وجد صعوبة في تنفيذ المهام المعرفية. أكّد مسح دماغي لاحق مستوى تعافيه واستمرار تداعيات إصابات أخرى. في الفص الجبهي الأيسر، ضعف بعض الأنسجة ولن يستعيد وضعه الطبيعي مطلقاً. لكن الشاب عاد ورقص في احتفال خلال الصيف. اليوم 746 نجح ديلان في ممارسة هواية تسلّق الجدار، وأثبتت مسيرته أن القصة لا تنتهي بعد 12 شهراً. هو يشبه عدداً متزايداً من المرضى الذين يعاكسون التوقعات كافة. لذا لا يمكن تطبيق قاعدة موحّدة على جميع الناس. اليوم 1541 تتحدث والدة ديلان عن التحوّل الذي أصاب ابنها، قائلةً إنه لم يتغير لكنه أصبح أكثر ترتيباً. كان فوضوياً قبل الحادث! يتعلق أبرز مؤشر على الحادث الذي تعرّض له بتجويف صغير في صدغه الأيسر وخطّين لامعين من البشرة الخالية من الشعر بدءاً من جبينه. يبلغ ديلان اليوم 23 عاماً ويستطيع الاتكال على نفسه. تطوّع كمساعد مدرّب في مدرسته القديمة ويساعد والده في مشاريع البناء ويأمل بأن يرتاد الجامعة يوماً. لا يزال يحتاج إلى تصحيح نطقه وإلى علاج معرفي، حتى أنه يواجه مشاكل في ذاكرته. لكنه يتنقل وحده في المنزل ويعيش حياة شبه طبيعية. في النهاية، يبدو أن إعادة برمجة الدماغ ممكنة!
مشاركة :