أكان لا بد أن تعبري الطريق يا نهاوند "3" | أمراً كان مفعولاً

  • 4/12/2017
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

لما راح كثيرون يرددون ما نُسب إلى السادات: " اللي مش هيغتني في عصري مش هيغتني"، كانت عيناي قد تعلمت أن تسبق شفتي إلى أي كلمة مكتوبة، فمنذ تعلمت القراءة في هذه المرحلة العبثية التي مرت بها البلاد؛ كنت أصطاد الحروف وأنشغل بإعادة تركيبها، أتابعها على مهل كأنني أختزنها.. كلمة على علبة سجائر أبي وصحيفته وعناوين كتبه والمصحف الكبير على المنضدة الصغيرة التي تتوسط غرفة المعيشة، زجاجات الأدوية، الملصقات على الثلاجة، أوراق الجرائد المقصوصة على هيئة مثلثات التي كانت جدتي تفرشها في الدولاب الزجاجي وترص عليها بعناية الأطباق والأكواب. إدراكي البصري سبق إدراكي المعرفي وأشعل خيالي، فكنت أتصور حكايات وراء الكلمات وأتخيل شخوصها وكبرت لعبة الحروف، فكنت أقرأ الكلمات بحروف مقلوبة وبالتالي أقلب معها الحكايات؛ أتخيل النهاية أولاً ثم أسرد التفاصيل، بالضبط مثل الأفلام التي تبدأ بالمشهد الرئيسي أو الحالي وبعده تعود بنا إلى فلاش باك، وكما اعتادت أمي أن تأخذنا في رحلة فلاش باك وتلون أمسياتنا بحكايات طفولتها، وحين تأتي عند سينما سعودي تتوقف كثيراً، وسينما سعودي كانت صالة العرض الوحيدة في "طوخ" المدينة الصغيرة التي تتبعها قريتنا، كانت سينما سعودي ملكاً لجد الفنان فتحي عبد الوهاب وواحدة من دور العرض الخاصة التي انتشرت بعد ثورة يوليو/تموز في الأقاليم والريف والأحياء الشعبية داخل المدن. ذهبت أمي إلى سينما سعودي وهي صغيرة مراراً برفقة جدها الذي حرص على ألا يفوته فيلم، بنفس درجة حرصه على حضور حفلات أم كلثوم قدر الإمكان. كانت أمي تستعد لهذا اليوم الذي تشاهد فيه شخوصاً مختلفين يتحركون على الشاشة غير الموجودين في حياتها وتتابع قصصاً وروايات تقمصتها فيما بعد وتقمصتني أنا أيضاً التي لم أشاهد سينما سعودي على الإطلاق، فالزمن تغير نسقه و"اتشقلب" حاله على طريقة نظرية الحراك الاجتماعي للمفكر د. جلال أمين في كتابه "ماذا حدث للمصريين؟"، مجروراً وراء منظومة السبعينيات الانفتاحية والتبعية للنظام الرأسمالي العالمي والهجرة وما نتج عن ذلك من تشوه قيمي وسلوكي في كل مظاهر الحياة ومنها السينما، فأُغلقت سينما سعودي وتحولت واجهتها إلى مقهى شعبي تُجاورها محال تجارية تصدرتها صورة حسني مبارك (تم إزاحتها الآن) مُوازية لصورة السادات، بينما ظلت صورة عبد الناصر في ركن بعيد منزوِ بأحد المحلات. المثير أنني دخلت السينما لأول مرة وكنت بالكاد أتممت شهرين من عمري، بصحبة أبي وأمي في دار عرض بمدينة الزقازيق؛ حيث كان يعمل أبي في بداية مشواره المهني في أول السبعينيات (سينما مصر وسينما سلمى شكلا جزءاً كبيراً من وجدان أجيال ولم يعد لهما وجود)، كان الفيلم المعروض هو (أبي فوق الشجرة) بطولة عبد الحليم حافظ وعماد حمدي ونادية لطفي وميرفت أمين، قصة إحسان عبد القدوس وسيناريو سعد الدين وهبة ومن إخراج حسين كمال، الفيلم الذي اعتبر وقتها من أقوى الأفلام الاستعراضية ومن أكثر الأفلام العربية تحقيقاً للإيرادات، واستمر عرضه أكثر من 58 أسبوعاً وزادت بعرضه بعد ذلك في دور العرض الصغيرة بالأقاليم، وقالت أمي إنه عندما تلقى عبد الحليم حافظ صفعة عماد حمدي الشهيرة، انفعل الجمهور وكاد أن يحطم السينما بينما ظللت أنا أبكي بشدة، وكأن دموعي هي ماء معموديتي في السينما. لا أستطيع أن أحدد الآن هل كان فيلم "أبي فوق الشجرة" هو نقطة البداية في علاقتي بالسينما، أم أنه أيضاً إشارة الولوج إلى شخصيتي الرومانسية أو التائهة؟.. اللعبة الجوزائية المعتادة، لكن المؤكد أن علاقتي بالسينما بعد ذلك تلخصت في مشاهداتي للأفلام القديمة على شاشة التليفزيون في المنزل، حتى قضى الله أمراً كان مفعولاً؛ حيث لعبت الصدفة دورها ووقعت عيناي على مقال نشرته إحدى المجلات للناقد الكبير علي أبو شادي عن فيلم "الجوع" للمخرج علي بدرخان في العام 1986، كنت لا أزال طالبة صغيرة في المدرسة تحلم بمستقبل أكبر من سنوات عمرها وقرأت مقال علي أبو شادي فتعلقت من خلاله بالسينما كأداة مهمة من أدوات النضال الاجتماعي والثقافي، يومها لم أكن قد شاهدت الفيلم في السينما، وربما شاهدته بعد ذلك بسنوات عبر أشرطة الفيديو لكن مقال أبو شادي ظل طوال الوقت هو مفتاح الفيلم، بل ومفتاح اهتمامي بالسينما وعالمها. من السينما إلى أهلها تأرجحت قصص أمي، فكانت تحكي: "عمر الشريف ما اتجوزش بعد فاتن حمامة عشان ما حبش غيرها ولا قدرت واحدة من بنات برة تملا عينيه".. تقولها باعتزاز وكأنها تدفع بشك ساورني بأنه لا وجود لوفاء في الحب، وإنما اختياراتنا في الحياة قد تفرض علينا أن نغير مصائر العلاقات! عمر الشريف هجر نجمته المصرية وعبر الحدود الفاصلة بين الشرق والغرب وراء نداهة أحلامه إلى فضاء أوسع، وأمي لا تراه سوى أنه حبيب فاتن حمامة الذي عجز عن نسيانها، فيما كان عمر الشريف أيقونة فارس الأحلام لفتيات أجيال متعاقبة بعينيه الغارقتين في حنان عميق الحزن، ورقة وليونة أخاذة في السحر، فيما كنت أنا أرى نور الشريف هو "الممثل بتاعي" كما اعتدت أن أصفه، هو كمال عبد الجواد وخياله الذي ترجل عن خفة الأشياء، في قصر الشوق والسكرية من ثلاثية نجيب محفوظ، ظلت صورة كمال عبد الجواد في ذهني منذ صغري عصية على الفراق، وظل نور الشريف تجسيداً لهذه الصورة، ممثل كامل التكوين والإيقاع، حساً وحركة ودراسة وموهبة، من كمال عبد الجواد إلى التائه الحائر بين الأضداد ابراهيم عبد الله بطل "أديب" قصة الدكتور طه حسين، نموذج الممزق بين الحلم والواقع، بين الأزهر والسوربون، بين جذوره في الصعيد ورأسه تتطلع إلى باريس، مروراً ووصولاً إلى عشرات الأدوار التي قدمها ابن "قلعة الكبش".. جغرافيته التي قفز عن جدارها متجاوزاً حلمه الصغير والبدائي في أن يكون لاعب كرة قدم ليولج في عالم التجلي الحر، فغيّر موقعه بحركة مفاجئة كلاعب شطرنج من نادي الزمالك إلى المعهد العالي للفنون المسرحية، وغيّر موقعي من مجرد متفرجة إلى متماهية مع أدوار مستلة من المجتمع ومعبرة عن ناسه، تتجه تدريجياً نحوهم وتبرز العلاقات بين البشر في واقع صعب يعلو فيه صراع الإنسان المسحوق ليأخذ دوره الذي يستحق في الحياة . مع ذلك يظل لعمر الشريف هذا الغموض اللغز الذي حير الصبايا وحيرّه هو ذاته، فكنت أتخيله دائماً يقف على شاطئ الإسكندرية شارداً، صامتاً، كأنه يصغي لأغنية قديمة عن الإسكندرية بصوت جورج موستاكي يحكي فيها عن طفولته في تلك المدينة الكوزموبوليتانية التي كان ثلث سكانها في أوائل القرن الماضي من جنسيات وثقافات متعددة تعايشت مع بعضها في سلام، أو بصوت داليدا أو كلود فرانسوا أو حتى بصوت الشيخ إمام (يا اسكندرية بحرك عجايب/ ياريت ينوبني من الحب نايب)، يشخص عمر بنظره إلى الجانب الآخر من الشاطئ؛ حيث البلاد البعيدة التي تغرب في موانئها ومطاراتها وفنادقها سنوات طويلة قبل أن تجرفه أمواج الحنين وتعيده مرة أخرى، وكنت أتساءل: هل كان يعلم الإسكندر الأكبر أن مدينته التي تختال على المتوسط ستكون ملحمة البحر وحلمه المشتعل بالثقافة والفنون؟ هل كان يعلم الفارس المظفر الذي سحرته تلك المدينة الصغيرة (راكوتيس) فوقف بفرسه يتأمل الساحل الأزرق وقرر أن يصلها بجزيرة فاروس أقصى نقطة وقعت عيناه عليها، هل كان يعلم أنه بجسره الموصول من اليابسة إلى الجزيرة عبر البحر يُعيد صياغة البلاد ويُحول (راكوتيس) أو راقودة من رقعة صغيرة محصورة بين بحيرة مريوط وميناء كيبوتوس إلى لوحة شطرنج كبيرة، كما خططها مهندسه "دنيوكراتيس"، من شاطئ يحترف أهله الصيد إلى مهد الميلاد لنجوم الفن والإبداع ورموزهما: قسطنطين كفافيس، سيد درويش، بيرم التونسي، عبدالله النديم، محمد بيومي، فاطمة رشدي، سلامة حجازي، توفيق الحكيم، شادي عبدالسلام، جورج موستاكي، يوسف شاهين، عمر الشريف، توفيق صالح، ديميس روسوس، سيف وانلي، حسن فتحي، إدوار الخراط، محمد مرسي، عادل أدهم و.. سمير صبري؟ هو سؤالي الذي سبقني للدخول في عالم الفنان سمير صبري حين كتبت سيرته ومشواره الفني والإنساني في إطار تكريمه بالمهرجان القومي للسينما المصرية، فكان من الشخصيات التي صنعت البهجة في حياتي وغيرت بعض مفاهيمي عن الحياة، نموذج لفنان شغوف بفنه كشغفه في أسلوب تعامله المُحب للحياة في مدينته المفتوحة على البحر بلا خوف أو قلق، تصوغ علاقتها بالآخر وبالعالم دون تردد أو إرتباك من سؤال الهوية، وسمير صبري هو النموذج المثالي لمنشئه وبيئته هو صورة لا لبس فيها ولا جدال لمجتمعه، متعدد الثقافات والمواهب، المنفتح على الآخر والمحافظ على هويته في ذات الوقت والمتسامح على قدر تعدديته، بالرغم من التغير الذي حدث للإسكندرية في السنوات الأخيرة على طريقة الفيلم التسجيلي "مافيش داريل" الذي أخرجه الفرنسي نيكولاس باري تناول فكرة أن الإسكندرية التي كتبها الروائي والشاعر البريطاني لورانس جورج داريل (1990:1912) في رباعيته الشهيرة (جوستين - بلثازار - ماونتوليف - كليا) لم تعد موجودة، لكن لا يزال سمير صبري يراها بلده الجميل الذي تقاسم معه الذكريات والتدرج في الصعود. ربما يستغرب البعض حين أشير إلى أن فناناً مثل حسين صدقي استطاع أن يغير بوصلة تفكيري، بالرغم من أنني لم أقابله (طبعاً) ولو بالصدفة، وتبدأ علاقتي به وتنتهي عند حدود مشاهدة أفلامه القديمة تليفزيونياً، حتى كلفني الناقد الكبير كمال رمزي بتأليف كتاب عن حسين صدقي في إطار احتفال مهرجان القاهرة السينمائي بمئويته، وكان لاختيار كمال رمزي لي ثلاثة أسباب، أولها أن كتابي "الفتوة في السينما المصرية" لفت انتباهه، وثانيها أنه أراد أن تكتب امرأة عن حسين صدقي خصوصاً في ظل ما يُشاع عنه من أنه "عدو المرأة"، وثالثها أن الكثير من النقاد تعففوا عن الكتابة عن صدقي واتخذوا منه موقفاً مبدئياً بسبب أسلوبه المسرحي المباشر في أفلامه والذي رشحه ليكون واعظاً في السينما أكثر من أن يكون ممثلاً ومنتجاً ومخرجاً ومؤلفاً أحياناً، وهذا السبب كاد يجعلني أعتذر عن التجربة لولا نزعة التحدي، ولا سيما بعد أن وجدت الكثير من أساتذتنا في النقد والتأريخ السينمائي تجاهلوه بشكل يكاد يكون متفقاً عليه، فقررت أن أغوص في عوالم حسين صدقي التاريخية والسياسية والاقتصادية التي أحاطت مجتمعه في زمنه حتى أتوصل للشكل النهائي الذي صار عليه، وتعلمت من هذه التجربة ألا أصدر أحكاماً عن الآخرين دون التعرف عليهم عن قرب. هذا القرب هو ما أزاح كل الحواجز حين قدمت كتابي عن الفنانة شويكار، وأدركت أن ثمة بشراً خلقهم الله ليحرضونا على البهجة والتوهج الذي يسكن وجداننا ومخيلتنا، وفهمت أن شويكار تحمل سمات أجمل وأعمق من الوقوف عند الإطار الخارجي للصورة، فهي ليست مجرد حسناء تسللت إلى مدائن الفن داخل حصانها الطروادي الذي يخطف الأبصار بجمال استحق لقب "سيدتي الجميلة"، لكنها تمثل بكل وضوح النموذج للنجمة الذكية التي لم تجعل جمالها حاجزاً للتواصل مع الآخرين؛ بل جعلته طيعاً ورشيقاً لا يتشبث بمساحة واحدة في الأداء ومع ذلك لا يتباطأ في الإعلان عن نفسه. وهو القرب ذاته الذي رسم لي رافداً من الأمل حين عملت مع المخرج أحمد رشوان في فيلمه التسجيلي عن حسن فتحي (رائد عمارة الفقراء)، وسافرت معه إلى قرية جراجوس بقنا، حيث عرفت حياة أخرى لما دخلت بيوت مسيحيين يعملون بالغزل اليدوي وتعاطيت مع كل رموز الفقر المدقع الذي يعيشه المصريون عموماً، وبينما كنت ألعن في سري كل نظام مبارك الذي يجرد البشر من آدميتهم كانت هناك يد صغيرة لطفلة تعطيني خيطاً ملوناً، كيف عرفت هذه الصغيرة عشقي للألوان؟، انحنيت أقبل اليد الصغيرة وأنا أتمتم "يد نقية توقظ القلب، ويد ملوثة هناك مختبئة في أقبية الظلام". أقبية حسن فتحي هي أقبية النور التي غيرت مسار حياتي، كما كان يأمل حسن فتحي نفسه مع الفقراء الذين انتمى إليهم بإرادته، وصعد بأحلامه نحوهم، قبل أن أذهب إلى جراجوس ذهبت إلى القرنة، نموذج الحلم الذي أراده للفقراء، ففاجأني أفقها الذي اتخذ شكل سؤال يحاصر هذه القرية المهملة التي تقع علي الضفة الغربية لمدينة الأقصر: هل كان الزمان يخبئ كل هذا الخراب والتشوه الذي أصاب حلم "حسن فتحي"؟ مسرحها المهجور.. والخان والمدرسة وبيت حسن فتحي لا يسكنها سوى الخواء، أما البيوت فبعضها سكنها واضعو اليد والبعض الآخر تم هدمه ليحل محله بيوت إسمنتية بغيضة، لم يستثن من ذلك سوى مسجد القرية الذي يفتقد العناية ومنزل بناه حسن فتحي لضيوفه يقطن فيه حارسه أحمد عبدالراضي، كل شيء هناك أصبح أشبه بالنصب التذكاري اليائس. أما في جراجوس، وتحديداً في مصنع الخزف الذي بناه فتحي داخل الدير الكبير، كان الأمر مختلفاً، فقبل أن أدخل الدير وجدت اسمي منقوشاً على جداره الخارجي، وحين دخلت رأيت صورة حسن فتحي معلقة على جدار داخل الدير ومذيلة بالقديس حسن فتحي، ولما ضحكت قال لي حارس الدير : "إنه فعلاً قديس، لم يعرف في حياته غير الحب الذي وزعه على الجميع". الحب الذي افتقده مجتمعنا تحت ضغط الفقر والقهر، لذا لم أنظر إلى وراء حين اتفقت أن أعمل مع المخرج العراقي الكبير ليث عبد الأمير في فيلم "دمعة الجلاد" الذي يتناول موضوعه عقوبة الإعدام، لم ألتفت إلى تقارير الإدانة من منظمة العفو الدولية للدول التي لا تزال تطبق هذه العقوبة، ولم أتوقف إطلاقاً عند أبرز حكايات الإعدام في التاريخ، ومررت على مرارتي الخاصة بظروف وملابسات إعدام صدام حسين قبيل اتفاقي على هذا الفيلم تقريباً، فيلم تسجيلي يرصد لحظات انتظار الموت لبشر يعيشون رهن خبطة على زنزانتهم المتر x متر فجراً لينتقلوا جراً أو زحفاً إلى غرفة الإعدام ومنها إلى عالم آخر، بشر محاصرون في هذا البرزخ بين الحياة والموت، لحظة اللقاء مع هؤلاء، هي لحظة قاسية لا مفر منها في سجن الاستئناف واسمه الرسمي سجن المحكوم، يقع في مبنى عتيق خلف مديرية أمن القاهرة بميدان باب الخلق وسط القاهرة، وهو السجن الوحيد الذي تنفذ فيه أحكام الإعدام شنقاً، المبنى عند دخوله مهيب ويؤرخ لحكايات كثيرة، مع كل خطوة في اتجاهه يرن في أذني صوت الشيخ إمام يغني كلمات الشاعر زين العابدين فؤاد: اتجمعوا العشاق في سجن القلعة ** اتجمعوا العشاق في باب الخلق والشمس غنوة من الزنازن طالعة ** ومصر غنوة مفرعة في الحلق مع الفارق بين ما أرادته الأغنية وبين موضوع فيلمنا، فهنا شخوص الفيلم قتلة لا إنكار، مجرمون من غير مناقشة، لكن السؤال: من حولهم إلى شخصيات إجرامية؟، وعلى خلفية السؤال يبدأ الفيلم بمشهد بانورامي للقاهرة من فوق مسجد السلطان حسن وفيما يعلو صوت الأذان، يباغتنا صوت عشماوي واثقاً: "فيه مشايخ كتير قالوا لي إنت ربنا اختارك عشان تنفذ كلمة الله على الأرض، يتسع الكادر لنشاهد مدينة التناقضات من أعلى نقطة لنتلمس طريقاً إلى عشوائية فرضت حالها على المجتمع مبانيه وشخوصه، ثم تنتقل الكاميرا إلى ميدان التحرير بعد ثورة 25 يناير؛ حيث المشانق المعلقة في الميدان ومعلق عليها دمية حسني مبارك، وصوت الهتاف: "المشانق ع الكفوف إعدم.. إعدام.. إعدام"، إشارة إلى الظلم والفساد، الذي تسبب فيه نظام مبارك لمصر وصنع الجريمة، وكيف أن المجرم كان ضحية قبل أن يحترف الإجرام، جدل لا يُحسم بين الشباب في الميدان حول فكرة الإعدام في حد ذاتها. في ميدان التحرير تحرك بي المعنى إلى منعطف آخر، كان كل شيء يبدأ من جديد في مصر وأحلامي في الكتابة تجنح نحو فضاء إنساني أكثر هشاشة، أتذكر المواطن التونسي "أحمد" على قناة الجزيرة: "هرمنا، لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية"، وبصرف النظر عن الأهوال التي تلت هذه اللحظة التاريخية، لكن يظل ميدان التحرير، قلب الثورة، وملاذ شعب تخلى عن استكانته، وحبر أقلامنا منذ ثورة 25 يناير وحتى كل الجمع التي حملت عناوين عريضة وحملتنا على جناح الخيال الثوري إلى مصر جديدة لا تعرف اليأس أو الخوف. وإن كانت الكتابة الصحفية خطفتني من الأدب، على اعتبار كما نقول في المثل الشعبي "زي الفريك ما تحبش فريك"، أو كما قال ماركيز إن الصحافة تعلُّقٌ مبكر ووحيد ولا غنى عنه، فكأن الأدب جاء امتداداً لها بعد الثورة المصرية وسلسلة تقارير صحفية كتبتها بأسلوب قصصي من الميدان، ثم صدور أول نص روائي لي وهو "الحتة الناقصة.. حكايات افتراضية". على صعيد آخر تعلمت في السفر ألا أهتم برأي الغرباء عني، وهذا أمر كان يُعكر مزاجي من قبل، لم تعد نظرة الأجانب تزعجني ولا أسئلتهم النمطية عن واقع بلادي، وصرت أمشي في الشوارع أُعيد تكوين المسافة بيني وبين البشر، فأبتسم لتلك السيدة الفرنسية التي تسألني في بروكسل كيف حصلت على لون بشرتي البرونزية، وتسألني أيضاً كيف نحن العرب نتحدث ونكتب اللغة العربية بسهولة وهي التي فشلت مراراً في تعلمها وتراها أصعب لغات العالم، وتتركني وهي تشير بيدها وتقول: إنها لغة عجيبة تُكتب من اليمين إلى اليسار.. وأرفع حاجبي لأعلى غير مبالية عندما سألني ذلك الألماني في أمستردام عن رأيي في أسامة بن لادن وجماعات العنف والتطرف الإسلامي، وأضحك بشدة حين يقول لي الأتراك في شوارع إسطنبول "الحمد لله" عندما يعرفون أنني مصرية، كل هذه المشاهد أترك "حبلها على الغارب" وأقطع الطرق أُفتش عن ميدان أستمع فيه لعزف فنان يجمع قوت يومه من أنغامه، أو أُطعم فيه الحمام الآمن وأقترب منه بلا خوف كما علمني صديقي التركي "سليمان" الذي شجعني على ألا أخاف من الطيور والحيوانات ولا أنفر من ملمسها ويقول لي: اقتربي، أنت بنت قرية!! ويشرح لي كيف أن هذا الاقتراب يُغذي الفراغ الآدمي، الفراغ الذي لم يفلح أن يهبط بي وأنا محمية بصديقات تكتمل بهن صورة المرأة الأسطورة التي لم ترتكن إلى حائط أو إلى رجل في رحلة صعودها، المرأة الملهمة التي صنعت خطها الخاص سواء في الكتابة أو الإعلام أو الفن أو الأمومة بعيداً عن بؤس المجتمع المحيط، يعلو صوت محمد منير (قدمت عنه بالمناسبة أول كتاب يتعرض لتجربته السينمائية الخاصة): بنات بنات بتحلم تضوي زي النجوم بتحلم ترفرف زي الرايات بنات بنات بتقدر تعاند وتقدر تثور ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مشاركة :