< قررت الأمم المتحدة في 1975 أن الصهيونية جريمة عنصرية، ولكن واشنطن ألغت القرار، بل اعتبرت الصهيونية حركة تحرر وطني، وأن الإساءة إليها معاداة للسامية. وبعد أن أكد تقرير الأمم المتحدة أن الممارسات الإسرائيلية تطبيقاً للعقيدة الصهيونية «الأبارتهايد» هي جريمة ضد الإنسانية؛ هل تعيد الأمم المتحدة دمغ الصهيونية «بالأبارتهايد»؟ علماً أن الجريمة التي أزاحت نظام جنوب أفريقيا العنصري لم يحل فيها البيض محل السود مثل "الأبارتهايد" الصهيوني الإحلالي الاستعماري! في الأسبوع الثاني من آذار (مارس) 2017 شهد العالم لفتة مدوية ولطمة بسبب سكوته وتستره على جرائم الإسرائيليين ضد الفلسطينيين، عندما أعلنت رئيسة لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لغرب آسيا الدكتورة ريما خلف استقالتها، لأنها لم تقبل أن تكون رقماً مجهولاً في الأمم المتحدة، ورفضت أن ترفع تقريراً للأمم المتحدة من على موقع «الاسكوا» كما طلب الأمين العام للأمم المتحدة. ولدينا ملاحظات عدة على هذا الموضوع. أولاً: أن الدكتورة ريما خلف لم يحتمل ضميرها أن تتستر مثل غيرها على تقرير خطر، وكانت بين «نارين»؛ إما تنفيذ تعليمات الأمين العام وهو الرئيس الإداري الأعلى في الأمم المتحدة أو عدم تنفيذ هذه التعليمات وتعرضها للمساءلة، فقررت أن تتخلى عن منصبها حتى تفسح المجال لغيرها ممن يحتمل ضميره رفع التقرير من على الموقع كما طلب الأمين العام، ولذلك فإن الدكتورة ريما لم تسعَ إلى بطولة أو إلى تحدي الأمين العام، وصاغت كلمات الاستقالة بعناية فائقة تعد درساً بليغاً للسلوك المسؤول، إذ فضلت أن تكون صوتاً ولو "خافتاً" للضمير الإنساني الذي دمرته إسرائيل والصهيونية، ولو كانت موظفة مثالية وانصاعت لتعليمات الأمين العام لما علمنا بهذه الصفحة البائسة، ولما كان اسمها احتل قائمة الشرف في السجل الإنساني. لذلك، أرجو من السادة القرّاء أن يطلعوا على رسالة الاستقالة، إذ كان بوسعها أن تستقيل بكلمة واحدة، ولكنها فضّلت أن تسجل ما ظل مستوراً حتى نعلم أن الخير في الإنسان قائماً إلى قيام الساعة، وختمت رسالتها بكلمتين بليغتين: أن هذا الموقف لا ينال منه بل يعززه أنه صدر من أنثى مسيحية، وتعليقنا أن الإنسانية لا تقف عند النوع أو الدين، وإنما هي تستوعب كل من ينتمي إلى نوع الإنسان على الأرض. ثانياً: أن ريما خلف لم تكتب التقرير الذي استقالت بسبب وضعه على موقع «الاسكوا»، وإنما كتبه مقرر الأمم المتحدة الخاص بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة وهو ريتشارد فولك، يهودي معروف من فصيلة اليهود العلماء المنصفين الذين يصدعون بالحق في مواجهة إسرائيل والصهيونية، وهو معروف بمواقفه الموثقة التي لا يقوى أحد من معسكر الصهيونية أن يدحض شيئاً فيها، ولذلك انصبت الحملة على نشر التقرير وليس على محتويات التقرير. ثالثاً: أن التقرير أورد العديد من المؤشرات الموثقة التي ترسم في مجملها صورة الدولة العنصرية بالنسبة للفلسطينيين، على رغم أنها ديموقراطية عند اليهود، ولكن هذا التقرير أطلق وصفاً صريحاً للممارسات الإسرائيلية وهى سياسة «الأبارتهايد»، وهي سياسة اتسمت بها حكومة جنوب أفريقيا العنصرية ودمغتها في المجتمع الدولي، وهي تشير إلى أعلى درجات العنصرية وهي أشد حدة من ممارسات أقل مثل الفصل العنصري والتنمية المنفصلة التي كانت تمارسها حكومة بريتوريا العنصرية. رابعاً: أن توقيت نشر التقرير إضافة إلى هذا الوصف المركز هو ما أثار القوى الصهيونية وأميركا في عهد ترامب الذي يتبنى المشروع الصهيوني صراحة، وهاجم التقرير من دون أن يتصدى لمضمونه، وهذا يرجع إلى عقيدة الصهيونية التي آن الأوان للمجتمع العربي والدولي أن يدرس مخاطرها، وهي أن فلسطين "لليهود وحدهم"، وأن من حق إسرائيل أن تبيد الشعب الفلسطيني الذي تزعم أنه احتل أرضهم، وأن هذه الإبادة عند إسرائيل بطولة وليست جريمة. لذلك، هذه المناسبة تدعونا في العالم العربي وعلى مستوى العالم وفي المنظمات العالمية والعربية أن نهتك هذه الازدواجية بين العقيدة الصهيونية والمواقف السياسية الإسرائيلية المخادعة للمجتمع الدولي، ونحن نتحدى أن يعقد مؤتمر دولي، لا لكي يبحث في سلام زائف في فلسطين، فقد افتضح أمرهم وهم يتآمرون لتصفية القضية، وموضوع المؤتمر هو "ماذا أضافت إسرائيل إلى منطقة الشرق الأوسط؟". كتبت سلسلة من المقالات في صحيفة «الاقتصادية» السعودية منذ سنوات عدة بعنوان: «الشرق الأوسط بلا إسرائيل»، وأعتقد أن هذا العنوان يجب أن يكون عقيدة المنطقة كلها قبل أن تفرض إسرائيل عليها عقيدتها، وهي الشرق الأوسط "بلا فلسطين"، ويجب على الجامعة العربية أن تتمسك بعروبتها وألا تداخلها الأحلام الصهيونية التي تشكك في العروبة، خصوصاً من دول يفترض أنها قلب العروبة، والتمسك بوجود هذه الأمة الخالدة وبقائها على رغم كل محاولات النيل منها، ولا بد من إعداد كتاب أسود للصهيونية نوضح فيه جرائم إسرائيل وإفنائها للعرق العربي، وتصديها لأي محاولة ديموقراطية، ومساندتها لكل ما يضر المنطقة تحت ستار عنوان غامض مشبوه هو أمن إسرائيل، خصوصاً أن إسرائيل والصهيونية حققت معظم أهدافها وهو تفتيت المنطقة العربية وخلق المنظمات والحكام الذين يحملون أسماء عربية وإسلامية، وهم سواعد صهيونية لتنفيذ المخطط الصهيوني. خامساً: إذا كانت واشنطن تحمي جرائم إسرائيل بهذا القدر من الفجور، فكيف يمكن أن تكون دولة عظمى تؤتمن على سلام العالم وحقوق الإنسان فيه؟ وكيف يمكن أن نقبل أميركا دولة عظمى ورئيسها يعلن صراحة أنه غطاء لكل المستبدين في المنطقة العربية، وأنه يحمي جرائم إسرائيل صراحة ويتآمر لإخراج الفلسطينيين من ديارهم وإلغاء اسم فلسطين وإهدار سجل المجتمع الدولي النظري على الأقل في مجال حقوق الإنسان؟ لذلك أدعو الشخصيات العامة الكبرى في العالم إلى الانحياز إلى قيم الخير والعدل التي ينال منها موقف واشنطن الراهن، وأن تجرى في إحدى العواصم الأوروبية محاكمة رمزية شعبية للرئيس ترامب ونتانياهو مثلما فعل العظيم برتراند راسل في بريطانيا إبان العدوان الأميركي ضد فيتنام في ستينات القرن الماضي. وأخيراً، أنبه إلى ضرورة أن يكون نموذج ريما خلف متعدداً في العالم العربي والعالم، وأن يكون صوتها نذيراً بالتصدي لـ"تغوّل" المشروع الصهيوني في الجسد العربي واعتدائه الصارخ على العقل العربي. تحية لهذا النموذج الإنساني المشرّف، وتحية لريتشارد فولك وجولد ستون والشهيد الكونت برنادوت أول ضحايا الحق في فلسطين وأول جرائم الصهيونية ضد الأمم المتحدة في 1948، وكانت هذه الحادثة كفيلة بأن ينزع عن إسرائيل صفة الدولة المحبة للسلام، وأن يعوق انضمامها إلى الأمم المتحدة التي قدمت لها شهادة ميلادها، فكانت الأمم المتحدة أولى ضحاياه. أخيراً، أرجو من القمة العربية المقبلة أن تعيد «الأبارتهايد» الصهيونية جريمة ضد الإنسانية، ولن يقبل العرب المنطقة بلا فلسطين، بل إن هذه الجريمة تنزع الشرعية المزعومة لإسرائيل. * أستاذ القانون الدولى والعلاقات الدولية.
مشاركة :