يأتي تكريم المعماري المصري عبدالواحد الوكيل بجائزة إنجاز العمر في الدورة الثانية لجائزة الفوزان لعمارة المساجد عن جدارة واستحقاق لمنجزه الكبير في التصاميم الهندسية المبتكرة للمساجد الجداوية التي تحولت إلى روائع معمارية ومعالم سياحية شهيرة مثل مسجد الملك سعود في قلب جدة التجاري، ومسجد الجفالي القريب من دوار البيعة ومسجد السليمان على طريق الملك عبدالعزيز، ومسجد الحارثي على طريق صاري، ومسجد الفارسي أو المسجد الأحمر قرب الميناء، ومسجد الكورنيش مقابل دوار التوحيد، ومسجد العزيزية في البغدادية، كذلك حاز الوكيل شرف تصميم مساجد قباء والقبلتين والميقات في المدينة المنورة، وتجمع هذه التصاميم المدهشة بين روحانية المعاني وأصالة المباني، مع الاعتماد على سحر البساطة في التكوين والزخرفة والنحت لإنشاء صروح معمارية تعبر عن هوية وقيم العمارة الإسلامية الخالدة. جماليات العمارة الإسلامية زيارة هذه المساجد تمنح فسحة إيمانية للتأمل في كسوة الجدران من رسومات الآيات القرانية، وتذوق جماليات المعمار الإسلامي عند مشاهدة المآذن العالية ترتفع في السماء كمنارات شامخة، وعندما تقترب ترى عرائس السماء أو الشرافات (وحدات زخرفية) تختال تحت أشعة الشمس متراصة على حافة السقف الخارجي للمسجد، ويبهرك حشد من المفردات المعمارية عندما تدلف إلى صحن المسجد الفسيح، وتبصر المقرنصات (تكوينات ثلاثية الأبعاد) بارزة في أعلى المداخل، والمشبكات (خطوط متشابكة) والنوافذ المصنوعة من الزجاج المعشق والزخارف النباتية البديعة على الجداريات والمشربيات المعلقة على النوافذ الخارجية والنوافذ الداخلية التي يطلق عليها الشمسيات وأخواتها القمريات تلك النوافذ المشرعة في القباب وهناك الأبواب الخشبية المنقوشة بمهارة عالية، والسقوف المعقودة، والقباب المتجاورة ومتواليات من الأقواس في جميع الزوايا، وتعلو بيت الصلاة قبة عظيمة، والمحراب الذي كان مجرد علامة يسيرة على صدر المسجد في عهد الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى أن تطور إلى تلك الأشكال الهندسية الرائعة في مساجد مصر الفاطمية والمملوكية ومساجد الأندلس ومساجد الطرز السلجوقية والعثمانية والمغولية، أما المنبر فتحول مع الزمن إلى قطعة فنية تبرز فن النجارة والنحت على الخشب. وعند التأمل في تلك الجماليات المتناغمة والمتنوعة في استعارات الوكيل مثلا عندما يستعيد تصميم مئذنة جامع السلطان حسن بالقاهرة لمئذنة جامع الملك سعود، ويختار تصميم المئذنة المدببة لمسجد الحارثي على غرار مئذنة السلطان سليمان في إسطنبول، وتشبه المئذنة الحلزونية لمسجد الميقات مئذنة جامع أحمد بن طولون في القاهرة، وكذلك فعل مع تصميم مسجد القبلتين الذي يحاكي تصميم المساجد الرسولية في اليمن، "إذ لا يملك الزائر إلا أن يشعر بقدسيتها وما توقعه من شعور ديني عميق، فكذلك المؤمن يزداد إيمانه إذا تنبه إلى ما في القرآن من جمال ساحر، فكذلك المصلي إذا أحس بجمال المسجد الذي يصلي فيه كان ذلك مساعدا على استغراقه في العبادة وحب المساجد والرغبة الجارفة في زيارته، كما يشير إلى ذلك الدكتور حسين مؤنس في كتابه القيم "المساجد". تصاميم مبتكرة الوكيل من مواليد القاهرة عام 1944م، تخرج في جامعة عين شمس عام 1965م حاصلا على بكالوريوس العمارة مع مرتبة الشرف، وعمل في الجامعة محاضرا حتى قابل المعماري الشهير حسن فتحي صاحب كتاب"عمارة الفقراء"، فغادر الجامعة وعمل معه بين الأعوام 1973-1968م، وتأثر بأسلوب فتحي في استخدام طرق التشييد القديمة واستعمال المواد الأولية من البيئة المحلية كالطين والحجر والآجر، والبناء دون استخدام الدعامات أو الجسور بين الأعمدة، وعلى هذا الأساس قام الوكيل بتصميم "بيت حلاوة" على شاطئ العجمي في الإسكندرية الذي نال على تصميمه جائزة الأغا خان للعمارة عام 1980م، وبعد انتقاله إلى جدة منتصف السبعينيات الميلادية للعمل مستشارا معماريا في أمانة جدة في عهد أمينها السابق الدكتور محمد علي فارسي حصل على جائزة الأغا مرة آخرى بفضل تصميمه لمسجد الكورنيش في جدة عام 1989 على شكل جناح على الشريط الساحلي لمدينة جدة على ساحل البحر الأحمر، مشيراً بقوة إلى الحضور الإسلامي في البيئة المحلية، "ويعكس البناء ما قام به المهندسون من أبحاث مكثفة في الطرق المتبعة في بناء المساجد القديمة ذات الثقافة التقليدية الرفيعة المستوى عندما استخدم الطوب المطلي بالجص في بناء كل أجزاء الهيكل باستثناء جوف القبة الذي دهن بلون برونزي داكن. ويقع رواق المصلين في مركز يتضمن المحراب الذي يبرز من الجدار الشرقي إلى الخارج حيث تعلوه نافذة صغيرة مدورة، ومدخلاً تغطيه قنطرة من السلاسل، إضافة إلى مئذنة ذات قاعدة مربعة وعمود مثمن الشكل". وأشادت لجنة التحكيم بقدرات المهندس الوكيل لما بذله من جهود في جمع العناصر التشكيلية بطريقة تظهر حاضر المجتمعات الإسلامية وماضيها العريق في الوقت نفسه. الوكيل يسير على خطى معلمه حسن فتحي في الاعتماد على الطوب الأحمر لأنه غير مكلف وعازل للحرارة، ويزيد العمر الافتراضي للمبنى، ولذلك يعد مسجد قباء من أول المباني الضخمة في العالم التي لم يدخل في بنائها الخرسانة والأسمنت. العودة إلى الأرض تجربة الوكيل كانت ضمن برنامج موسع تحت رعاية الملك فهد- رحمه الله- لعمارة المسجد في الثمانينيات وإحياء تراث العمارة الإسلامية وفنونها، وهذا التكريم الثاني للوكيل في السعودية بعد حصوله على جائزة المعماري المتميز في الندوة العالمية لعمارة المساجد التي أقيمت في الرياض نهاية التسعينيات الميلادية، وعندها قابل الأمير سلطان بن سلمان صاحب الشغف بالتراث العمراني والحرف القديمة، يقول الوكيل في حوار سابق: أسعدني جدا اهتمامه بفكرة العمارة بالطين، وزادت سعادتي عندما علمت اتجاهه للبناء بالفكرة نفسها. وبحسب الوكيل فإن إنشاء منزل الأمير في الدرعية ومعايشة تجربة التعامل مع الحرفيين وإنقاذ هذا التراث من الانقراض يعد انتصارا لهذا الفن الرفيع، وتحقيقا لأمنية المعلم حسن فتحي الذي زار المملكة عام 1970م، ورغب في تصميم منزل حديث مبني بالطين في الدرعية". الأمير سلطان بن سلمان رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار في السعودية حرص على إنقاذ وإعادة تأهيل التراث العمراني، ونشر الثقافة بأهمية الحفاظ عليه للأجيال المقبلة، وانطلق المشروع من خلال إعادة بناء البيت النجدي في نخيل العذيبات في الدرعية، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل قاد الأمير إلى تأسيس مؤسسة التراث الخيرية، والقيام بمبادرات للحفاظ على هذا التراث، ولعل أهمها تسجيل المواقع التاريخية في قائمة اليونيسكو للتراث العالمي، هذه التجربة تم توثيقها في كتاب مطبوع تحت عنوان "العودة الى الأرض" لمؤلفه وليم فيسي وتقديم أمير ويلز الأمير تشارلز، إذ اعتبر أن هذا المشروع يعد عملاً يدل على الحب والإخلاص الذي كرسه الأمير سلطان على مدى الأعوام الـ20 الماضية، بينما ذكر المهندس عبدالواحد الوكيل أن نشر كتاب (العودة إلى الأرض) سيعطي أملاً للاتجاهات المعمارية التي فشلت في الوصول إلى الجماهير، لأن الاتجاه المقترح هو العمارة للأغنياء، وليس العمارة للفقراء.Image: category: ثقافة وفنونAuthor: حمود أبو ماجد من جدةpublication date: الخميس, أبريل 13, 2017 - 03:00
مشاركة :