أكد الكاتب الأميركي سانام فاكيل أن إيران ستستمرُّ في محاولة توسيع نفوذها الإقليمي وأنها ستواصل استراتيجيتها الحذرة والبراغماتية تجاه الغرب. ولفت الكاتب في تحليل مطول نشرته مجلة ” فورين أفيرز” الأميريكية، وترجمه مركز الخليج للدراسات الإيرانية، إلى أن الضغط الذي تمارسه إدارة ترامب لن يحدث تغييرًا في ملامح السياسة الخارجية الإيرانية. وفيما يلي نص المقال التحليلي: في السابع عشر من شهر يوليو لعام 2016، بلغ المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي السابعة والسبعين. وقد انتشرت شائعات تقول إنه يعاني مرض السرطان منذ أكثر من عقد. وفي عام 2014 نشرت وكالة الأنباء الرسمية صورًا له بعد تعافيه من جراحة البروستاتا. وعلى الرغم من أن التنبؤ بمراحل مرض خامنئي لا يزال سرِّيًّا، فإن الحكومة الإيرانية تعمل بوضوح على تنصيب خليفة له على وجه السرعة. وفي شهر ديسمبر عام 2015، أثار علي أكبر هاشمي رفسنجاني، الرئيس السابق وصانع الملوك، الموضوع الذي يُعَدّ سرِّيًّا في العادة عندما اعترف علنًا بأن مجلسًا داخل مجلس الخبراء -هو المجلس الذي يختار المرشد الأعلى- دقَّق بالفعل في الخلفاء المحتمَلين. وفي شهر مارس الماضي، بعد انتخاب أعضاء جُدُد للمجلس لمدة 8 سنوات، دعا خامنئي بنفسه بأن عليهم أن يختاروا بديلًا “ليس أقلَّ منه شأنًا”. إن موت خامنئي سيُحدِث أكبر تغيير سياسي في الجمهورية الإسلامية منذ وفاة المرشد الأعلى السابق الخميني، الأب الروحي للثورة، عام 1989، إذ إن المرشد الأعلى يُعَدُّ أقوى شخص في إيران بامتلاكه نفوذًا على جميع أجزاء البلاد، والشخص الجديد في هذا المنصب يستطيع تغيير اتجاه ومغزى السياسات الداخلية والخارجية لإيران بشكل كبير. ولكن من المحتمل أن أولئك الذي يأملون في أن تكون إيران أكثر اعتدالًا وودية سيُصابون بخيبة أمل، فمنذ أن تَوَلَّى خامنئي السلطة في عام 1989، بنى بِنيَة أمنية واستخباراتية واقتصادية معقَّدة تتألف من تابعين موالين له ومؤيدين بشكل كبير لمفهومه عن الجمهورية الإسلامية، وهم شبكة يمكن تسميتها بـ”الدولة العميقة” داخل إيران. ففي حال تُوُفِّيَ خامنئي، فإن الدولة العميقة ستضمن أن من يأخذ مكانه يحمل نفس وجهات نظرها المتشددة، ويكون ملتزمًا بحماية مصالحها. ما الماضي إلا تمهيد عندما توُفِّي الخميني اعتبر المراقبون خامنئي مجرَّد واحد من حفنة من البدلاء المحتمَلين، حتى إنهم لم يعتبروه البديل المُرجَّح، وكان خامنئي، وهو رجل دين متوسط المكانة يبلغ من العمر 50 عامًا في ذلك الوقت، يفتقر إلى مكانة الخميني المرموقة. إلا أن رفسنجاني، أحد المقربين من الخميني، قال في اجتماع عُقد في 4 يونيو من عام 1989 بعد وفاة الخميني، إن الخميني اعتبر خامنئي مؤهَّلًا لهذا المنصب. وانتخبت المجموعة خامنئي بأغلبية 60 صوتًا مقابل 14 صوت. كما أن خامنئي تَعهَّد بالحفاظ على الاستقرار بصفته مرشدًا أعلى، قائلًا في خطاب ألقاه في العام الذي تَوَلَّى فيه المنصب: “أؤكِّد لكم أن إيران تواصل السير على طريق الثورة الإسلامية ولم تنحرف عن مبادئها”. إلا أنه في الواقع بدأ بإجراء تغييرات جذرية في النظام السياسي الإيراني. وبالنظر إلى مرتبة خامنئي المتوسطة -إذ لم يكن سوى “آية الله” لا “آية الله العظمى” أو “مرجعًا”- كان انتخابه انتهاكًا فنيًّا للدستور الإيراني. لذلك وضعت المؤسَّسة السياسية بسرعة مجموعةً من التنقيحات الدستورية التي وافق عليها الخميني بالفعل للاستفتاء الشعبي حولها، في محاولة للحَدّ من التوتُّرات بين الفصائل بعد وفاته. ولم يقتصر الأمر على تخفيض المؤهّلات المطلوبة للمرشد الأعلى، بل زادت سلطة من يتولَّى المنصب. أدَّت هذه التغييرات إلى القضاء على إمكانية وجود مجلس قيادي يتراوح بين ثلاثة وخمسة أشخاص إذا أخفق مجلس الخبراء في انتخاب زعيم أعلى. وقد أضيفت كلمة “المُطلَقة” قبل وصف سلطة المرشد الأعلى في المادَّة التي تحدِّد الفصل بين السلطات، ومِن ثَمَّ تعظيم سيطرته على الفروع التنفيذية والتشريعية والقضائية في إيران. وقد أُعيدَت كتابة مقال آخر لمنح المرشد الأعلى صلاحيات جديدة واسعة، بما في ذلك سلطة حلّ “القضايا الموجودة في النظام التي لا يمكن حلُّها بالوسائل العادية”، عبر جهاز دستوري جديد يسمى “مجلس تشخيص مصلحة النظام”. ووضعت هذه التعديلات مجموعة صلاحيات غير مسبوقة تحت سلطة المرشد الأعلى الجديد. وفي السنوات التي تلتها أثبت خامنئي عزمه على استخدامها. صعود الدولة العميقة تحت حكم الخميني، انقسمت الجمهورية الإسلامية، فكان على الجانب الأيسر الأشخاص الذين يسعون لحفظ سيطرة الدولة على الاقتصاد وفرض سياسات ثقافية معتدلة، وعلى الجانب الأيمن الأشخاص الغاضبون من تدخُّل الحكومة في الاقتصاد، ولكنهم يفضِّلون سياسة محلِّية مستوحاة من الشريعة الإسلامية. وأحكم الخميني قبضته على هذين الجانبين في النظام معًا مع دعم من المؤسَّسات الدينية -القوة الحقيقة وراء الثورة- وإعطاء كل جانب منهما النفوذ. إن الشعور المشترك بالنضال خلال الحرب الإيرانية-العراقية، إلى جانب التأثير الشخصي الرهيب للخميني وشخصيته الجذَّابة، حافظا على عدم ظهور هذه التوتُّرات في العلن خلال فترة حكمه، ولكن من الداخل توجد انقسامات عميقة. ومع انتهاء الحرب وموت الخميني، بلغ الاقتتال الداخلي بين الفصائل مرحلة جديدة، وبدأ خامنئي في تعزيز سلطته تدريجيًّا. وخلال فترة الرئيس رفسنجاني الأولى من عام 1989 إلى عام 1993، تعايش الرجلان سلميًّا، فدعم خامنئي بحذر خُطَط رفسنجاني لِمَا بعد الحرب من أجل التحرُّر الاقتصادي والتكامل الإقليميّ، وتَقبَّل على مضض جهود رفسنجاني لتعزيز التحرُّر الثقافي. إلا أن معارضة أجندة رفسنجاني الليبرالية بدأت تتصاعد بين حلفائه المتشددين، الذين فازوا بأغلبية البرلمان في عام 1992. وبعد عامين، اتخذ خامنئي موقفًا ضدّ رفسنجاني علنًا بسبب الميزانية، منتقدًا إياه بسبب الاضطراب الاقتصادي المتزايد الذي تمرُّ به البلاد وانتشار الفساد، لأن رفسنجاني غيَّر موقفه تجاه أجندته التحرُّريَّة الثقافية وساير المحافظين بمنحهم مزيدًا من المقاعد في حكومته ومنحهم قدرة وصول أكبر إلى الامتيازات الاقتصادية. وقد تستمرُّ المنافسة بين خامنئي ورفسنجاني حتى وفاة الأخير في أوائل هذا العام، مع صعود خامنئي مرارًا وتكرارًا إلى قمة السلطة. كانت مشكلة خامنئي التالية تكمن في اكتساب السلطة داخل المؤسَّسة الدينية، لأن خامنئي حظِيَ بدعم شبه جماعي عندما أصبح المرشد الأعلى، وفي عام 1994 اعتبرت جمعية معلمي قُمّ العلمية (مؤسَّسة سياسية ودينية ذات أهمية) خامنئي مرجعًا. ومع ذلك فإن عددًا من رجال الدين شكّك بشكلٍ كبيرٍ في مؤهّلاته الدينية. ولمواجهة ضعفه المتوقَّع شرع خامنئي في رحلة دامت لنحو عقد من الزمان في بناء دعم ديني، وقد فرض بيروقراطية تديرها الدولة على رأس الهيكل الديني في قُمّ، جرَّدَت آيات الله من استقلاليتهم المالية التي كانوا يعتزُّون بها، ووضعتهم تحت سيطرته الضمنية. وقد كافأ مؤيِّديه بمراكز سياسية وبامتيازات مالية، نفاها أمام منتقديه. وفي هذه العملية تَمكَّن خامنئي من إخضاع جمعية الخبراء، وهي الجهة الوحيدة التي لها سلطة دستورية للإشراف عليه. وعلى مرّ السنين قلّص خامنئي بثباتٍ دورَ الحكومة المنتخبة في إيران عبر تركيز السلطة تحت إدارته الخاصة وتحت كيانات الدولة التي تقع خارج الرقابة الحكومية. وفي عام 2011 أنشأ كيانًا مسؤولًا عن حلّ النزاعات بين فروع الحكومة المختلفة وعيّن رئيسه. وأنشأ أيضًا المجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجية، ومجلسه الاستشاري الشخصي بشأن السياسة الخارجية، بالإضافة إلى جهازٍ استخباراتيّ موازٍ، كسب قوّةً أكبر من قوة الحكومة المنتخَبة. وفي حين يعتمد الخميني على مجموعة صغيرة من المسؤولين لإدارة شؤون مكتبه، فإنه وضع آلافًا من ممثليه المباشرين وغير المباشرين في ما تشرف عليه الحكومة من الوزارات والجامعات والقوات المسلَّحة والمؤسَّسات الدينية في جميع أنحاء البلاد، لأنهم جميعًا يرفعون تقارير له أو لمكتبه. مكانة الحرس الأهم من ذلك أنّ خامنئي كوّن علاقة قوية مع فليق الحرس الثوري الإسلامي (القوة العسكرية الموازية للجيش النظامي، والموالي للمرشد الأعلى، والمسؤول عن حماية الأمن الإيراني والشخصية الإسلامية)، لأن أسلوبه كان يعتمد بشكل كبير على الجانب المالي. وعلى مدى العقدين الماضيين، ولأن إيران توَجَّهَت بشكل متردِّد نحو التحرُّر الاقتصادي، ساعد خامنئي الشركات التابعة للحرس الثوري في شراء الشركات المملوكة للحكومة بأسعار أقلَّ من معدَّلات السوق، وساق عقود الحكومة المربحة إليها. نتيجةً لذلك، أصبح الحرس الثوري قوة تجارية مليارية تضمّ مئات الشركات، وهذه الشركات توظف مئات آلاف الإيرانيين مباشرةً، ويعتمد الملايين عليها بشكل غير مباشر في معيشتهم. على سبيل المثال لا الحصر، يُدير الحرس الثوري شركة “خاتم الأنبياء للإنشاءات”، التي تُعتبر أكبر شركة هندسية في إيران ويعمل بها أكثر من 160.000 ألف شخص. وفي ظلّ تنامي القوة الاقتصادية للحرس الثوري الإيراني، فإن شهيَّته لفرض نفسه على الساحة السياسية قد انفتحت، وجاءت هذه الفرصة الذهبية في عام 1999م عندما خرج آلاف الطلاب إلى الشوارع بغية الاحتجاج على إغلاق صحيفة ذات اتجاه إصلاحي، مما دفع أربعةً وعشرين قائدًا من الحرس الثوري إلى كتابة رسالة مليئة بالغضب إلى الرئيس في ذلك الوقت محمد خاتمي، حملت انتقادات للرئيس بسبب عدم تَصدِّيه لهذه المظاهرات، وطالبت ضمنيًّا باستقالته، وقالوا: “لقد نفد صبرنا، ولا نعتقد أن بإمكاننا الصبر أكثر إن لم تُعالَج هذه المسألة”. كان هذا أول تَدخُّل مباشر للحرس الثوري في شؤون السياسة، كما أدَّى التدخُّل إلى إفساد برنامج خاتمي الإصلاحي، فنجحت دولة إيران العميقة في تنفيذ انقلاب ناعم ضدّ حكومتها. منذ ذلك الحين التزم الإصلاحيون المقاعد الخلفية، في حين تَوَسَّعت الدولة العميقة، واستمر هذا النهج في الفترة الرئاسية لمحمود أحمدي نجاد الذي تَوَلَّى الرئاسة في عام 2005م، إذ مُنِحَ أعضاء الحرس الثوري مزيدًا من المناصب الحكومية والمقاعد البرلمانية، كما فرضت المنظَّمات المرتبطة بالحرس الثوري سيطرتها على معظم الجهات التي خُصخِصَت حديثًا. وعندما جاءت انتخابات 2009 الرئاسية المثيرة للجدل، نفّذ الحرس الثوري حملة فرض النظام بعد اندلاع الثورة الخضراء، الأمر الذي رسّخ سلطته بشكل أقوى. إن أكثر ما يهمّ المسؤولون في الدولة العميقة الآن هو حماية مؤسَّساتهم ممَّا يسمُّونه “الحرب الناعمة” (جنگِ نرم) التي يشنُّها الغرب. وبعد أن فاجأتهم مظاهرات 2009م، يرى هؤلاء المسؤولون أنهم سدّ منيع ضدّ جهود الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين الرامية إلى تقويض إيران. وفي ظلّ استعداد الدولة العميقة لعملية خلافة خامنئي، فإنها ستبحث عن مرشَّح يستطيع أن يُساعدها بمواصلة هذا الصراع. في الساعات التي تتبع وفاة خامنئي يُرجَّح بشِدَّة عقد رئيس مجلس الخبراء جلسة طارئة لاختيار خليفة خامنئي، ورغم أن إجراءات عملية الاختيار ليست ثابتة (أو مدرجة في الدستور)، فإن سابقة خامنئي تُشير إلى أن المجلس سوف يختار عضوًا من أعضائهِ الـ88. ولأن أكثر ما يهمّ الأعضاء هو حماية دولة إيران العميقة فإنه يرجح انتخابهم عضوًا شابًّا نسبيًّا يستطيع أن يُحافظ على الاستقرار لفترة طويلة في المستقبل. ويجب أن يتحلَّى هذا المرشَّح بالصفات التالية: أن يكون ذا ميول دينية متشددة -مثل خامنئي- في كلّ مِنْ السياسة الداخلية والخارجية، ويتمتع بسلطة دينية مناسبة غير شاملة، وخبرة إدارية جيدة، والأهمَ من ذلك أن يحترم مصالح الدولة العميقة ويسمح لها بالعمل دون تدخُّل. بدورها، تقصي هذه المعايير ثلاثة من المرشَّحين المتداولة أسماؤهم بكثرة: حسن خميني (حفيد الخميني)، والرئيس حسن روحاني، ومجتبى خامنئي (ابن خامنئي)، إذ لا تثق الدولة العميقة بالمرشَّحَيْن الأوَّلَيْن بسبب ميولهما الإصلاحية، بينما لا يحظى المرشَّح الثالث بقاعدة تأييد شعبية. وعلى العكس، يُرجَّح جدًّا أن يشغل منصب المرشد الأعلى أحد هؤلاء المرشَّحين الثلاثة: صادق لاريجاني ومحمود هاشمي شهرودي وإبراهيم رئيسي. المتشدِّد ذو السمعة الملوثة وُلِدَ لاريجاني، الرئيس الحالي للسلطة القضائية الإيرانية البالغ من العمر 56 عامًا، في مدينة النجف العراقية لعائلة ذات نفوذ، حيث حمل والده ميرزا هاشم أمولي لقب آية الله العظمى، وكان يتمتع بتقدير كبير، وشغل أشقاؤه الأربعة مناصب عُليا في الحكومة الإيرانية، وبصفتهِ عضوًا منتخَبًا في مجلس الخبراء منذ عام 1998م، عُيِّنَ لاريجاني في مجلس صيانة الدستور (المجلس الذي يُصدِّق على المرشَّحين للبرلمان ومجلس الخبراء والرئاسة) في عام 2001م، كما عُيِّن في عام 2009م رئيسًا للسلطة القضائية. ويتمتع لاريجاني بخبرات لا تشوبها شائبة، إذ تَتَلْمَذَ على يد أبيه وآية الله العظمى حسين وحيد خراساني، كما بدأ بتدريس أعلى مستويات التعاليم الدينية في الكليات عندما كان في سن الثلاثين. وأيضًا كتب على نطاق واسع عن المزايا الفلسفية للحكومة الإسلامية. وبالتأكيد فإن “المتشدِّد الحقيقي” هو أفضل ما يوصف به شخص لاريجاني. وباعتباره عضوًا من اليمين المتطرف في “جمعية مدرسي حوزة قم العلمية”، فإنه يعارض تخفيف الأعراف الاجتماعية والدينية، وأيضًا تحرير النظام السياسي الإيراني، كما أنه يؤيِّد اتخاذ سياسة عدم التسامح المطلقة تجاه المعارضة، فقد تَحدَّث في مؤتمر لمسؤولي القضاء في عام 2015م عن إجراءات حازمة ضدّ المعارضة المحلية قائلًا: “لا يمكن لنا أن نتبادل المديح معهم”. ويمتلك لاريجاني وجهة نظر معادية تمامًا للغرب، كما هو الحال مع المرشد الأعلى. وبعد أن حقّق معتدلون داعمون لرفسنجاني وروحاني تقدُّمًا في انتخابات مجلس الخبراء في شهر فبراير من عام 2016م، أصدر لاريجاني بيانًا اّتهم فيه المعتدلين بالتعاون مع السعودية والمملكة المتحدة والولايات المتحدة. وأدَّى الموقف العنيد الذي اتخذه لاريجاني إلى دخوله في صراعات مع عدد لا بأس به من أعضاء المؤسَّسة السياسية على مَرِّ السنين، بمن في ذلك أحمدي نجاد ورفسنجاني. إلا أن لاريجاني أثبت إخلاصه المطلق للمشرد الأعلى، فلم يدّعِ قط مرتبة آية الله، وهذا يُظهِر الاحترام لسلطة خامنئي، بَيْدَ أنه يؤيِّد الفكرة التي تنطوي على وجوب ممارسة مجلس الخبراء الحدَّ الأدنى من الإشراف على المرشد الأعلى، وهذه تُعتبر وجهة نظر مُتطرِّفة داخل المدرسة. وقد وصف خامنئي لاريجاني بأنه “مُثقَّف وشجاع وذكيّ ومجتهد ثوريّ (تفسير موثوق في القانون الإسلامي) وعالِم تقيّ”، وقد كافأه لولائه بترشيحه لمناصب هامَّة. وبصفته رئيسًا للسلطة القضائية، فقد انهلّ على لاريجاني غضبُ الإصلاحيين وإعجاب المتشددين بسبب فرض عقاب صارم لمتظاهري الحركة الخضراء، وأوجد لنفسه مكانًا في “قائمة الاتحاد الأوروبي لمنتهكي حقوق الإنسان”. لذلك كوَّن لاريجاني علاقة جيدة مع الحرس الثوري، إذ ساعد جهاز الاستخبارات السلطة القضائية في السنوات الأخيرة في اعتقال واستجواب نشطاء. وأظهر لاريجاني حماسته المحافظة، مهاجمًا روحاني لدعم الاتفاق النووي. وعلاوة على ذك وزيادة لنفوذه، تَرَأَّسَ لاريجاني مجلس أمناء جامعة الإمام الصادق، التي تُدرِّب الضُّبَّاط المدنيين من أجل مناصب سياسية رئيسية في الجمهورية الإسلامية. مِن ثَمَّ فإن مشاركته في هذه المؤسَّسات المحورية منحته فهمًا عميقًا لمتاهة السلطة في إيران. ولكن تبقى في طريق لاريجاني عقبة رئيسية، إذ تَعرَّضَت عائلته في السنوات الأخيرة لهجوم بسبب الفساد، وفي عام 2013 أدلى أحمدي نجاد بشريط فيديو في البرلمان يُظهِر أحد إخوة لاريجاني وهو يستغلُّ علاقات عائلته، كما اتهم أحدُ أعضاء البرلمان لاريجاني بتحويل الأموال العامة لحساباته الشخصية في البنك. وعلى الرغم من أن هذه الادعاءات اتّضح زيفها في نهاية المطاف، فإنها ما زالت تقف حجر عثرة أمام صعود لاريجاني إلى هرم القيادة في حال خلص أعضاء المجلس أن سمعته مشوَّهةً جدًّا. المرشَّح المعتمد خلف شهرودي لاريجاني في رئاسة السلطة القضائية، وهو أيضًا مرشَّح بصورة متساوية لمنصب المرشد الأعلى. وكان شهرودي وُلد لعائلة من رجال الدين في كربلاء في العراق، ويبلغ من العمر 68 عامًا، هاجر إلى إيران بعد فترة وجيزة من ثورة 1979، وكان يعمل وسيطًا للجمهورية الإسلامية والمعارضة الشيعية العراقية لصدام حسين. وقد بزغت شمسه بعد وفاة الخميني عندما عيَّنه خامنئي لمجلس صيانة الدستور. وفي عام 1999 عُيّن شهرودي رئيسًا للسلطة القضائية، وقد خدم في هذا المنصب حتى انتهت فترته في عام 2009. وكان شهرودي على علاقة وثيقة مع خامنئي، كما يشاطر خامنئي الرأي في فلسفته المعادية للولايات المتحدة ومواقفه المتشددة في ما يتعلق بالسياسة الخارجية، إلا أنه -على النقيض من خامنئي- تَجنَّب سياسات الفئوية. وأكثر ما يميز شهرودي مؤهّلاته الإسلامية، كما يحمل شهرودي اللقب الشرفي “سيِّد”، مِمَّا يعني أنه من سلالة النبي محمد. وعندما كان الخميني محاضرًا مغتربًا في النجف، كان شهرودي درس عنده وعند غيره من العلماء، وفي عام 2010 أعلن شهرودي نفسه “آية الله العظمى” ونشر مجموعة من الفتاوى. ونظرًا إلى عَلاقاته القوية مع طوائف في المجتمع الشيعيّ في العراق، جعلته يتمتع بسلطة دينية تمتدّ إلى ما هو أبعد من إيران، فقد منحه ذلك أفضلية على مسابقيه نحو منصب المرشد الأعلى. ولكن علاقته بجمعية معلمي مدرسة قم التي هو أحد أعضائها لم تكُن ناجحة بما فيه الكفاية، ففي عام 2012 حاول أن يبدأ منافسة بمجموعة دينية أكثر شمولية، ولكنه في النهاية تَصَدَّى له بعض الأعضاء من آيات الله رفيعي المستوى الذين اتهموه بزرع الفتنة. وبصفته رئيسًا للسلطة القضائية، أظهر شهرودي معارضة ضئيلة للمعاملة القاسية للمعارضين والناشطين، كما بذل جهودًا فاترة بغية الإصلاح، فحقق قليلًا منها. وقد فشلت جهوده الرامية إلى محاربة الفساد (في الواقع تنبأت الصحافة بأن بعض مساعديه كان فاسدًا). إن القانون البرلماني لعام 2004 الذي كان يهدف به إلى رصد أداء المحاكم والمحقِّقين أثبت عدم فاعليته، وكذلك محاولاته إنهاء الحبس الانفرادي والتعذيب، وعلى الرغم من أن هذه الإصلاحات كانت واقعة -باعتبارها من داخل النظام- فإنه لم يسعَ قط لإصلاحات واسعة النطاق. يتمتع شهرودي بخبرة كبيرة في أعلى مراتب السلطة والنفوذ، وإضافة إلى الوقت الذي أمضاه في رئاسة السلطة القضائية وعضويته في مجلس صيانة الدستور، خدم في المجلس الأعلى للثورة الثقافية (الذي يضع سياسات حول العادات الاجتماعية الإيرانية). وفي شهر مارس تدُووِل اسمه مرشَّحًا محتمَلًا لرئاسة مجلس تشخيص مصلحة النظام (الذي يفصل في النزاعات بين البرلمان ومجلس صيانة الدستور)، وتلك ترقية كبيرة. بيد أن تأثير شهرودي لا يمتدّ إلى هذا الحد، إذ لا يبدو أنه يتمتَّع بعلاقه قوية مع المسؤولين العسكريين أو الأمنيين. يُعرف شهرودي بشخصيته اللطيفة، وتجنُّبه السياسة المتعصبة بشكل كبير، ففي مظاهرات عام 2009 لم يقُل إلا قليلًا عن الأحكام القاضية الصادرة بحقّ المتظاهرين. كما أنه حافظ على علاقته مع دائرة أحمدي نجاد المتشددة، وحَشْد رفسنجاني الذي يميل نحو الإصلاح. وقد يقود تَجَنُّبُ شهرودي لتأييد قضية ما على حساب أخرى بعضَ أولئك الذين في الدولة العميقة إلى اعتباره غير جدير بالثقة، وقد يفسر ذلك فشل محاولته تَوَلِّي منصب رئيس مجلس الخبراء. اختيار الدولة العميقة منذ مطلع عام 2016 برز رئيسي على أنه الشخص المفضل لأن يصبح المرشد الأعلى المقبل في إيران، وفي مارس 2016 عُيِّن رئيسي البالغ من العمر 56 عامًا رئيسًا للعتبة الرضوية المقدسة، وهي منظَّمة خيرية ضخمة يسيطر عليها مكتب المرشد الأعلى تُدير ضريحًا يجذب الحُجَّاج الدينيين من إيران وخارجها. وفي هذا المنصب يُشرِف رئيسي على الإمبراطورية التجارية المتمدِّدة للمنظَّمة، التي تُدير هبة المنظَّمة الخيرية للجماعات والمؤسَّسات الدينية. وعلى الرغم من أن رئيسي ليس معروفًا بشكل جيد بين الإيرانيين، فإن تعيينه الجديد سيرفع مكانته بلا شكّ. كوّن رئيسي حياته المهنية في القضاء، ففي عام 1980، عندما كان يبلغ من العمر 20 عامًا فقط، كان من ضمن أول مجموعة من رجال الدين الشباب الذين دخلوا نظام المحاكم الإسلامية الذي أُنشئ حديثًا، وشقّ طريقة بهدوء. وبعد أن رأس الفريق الذي يُحاكم الفساد في الكيانات المملوكة للدولة، عُيّن نائبًا لرئيس القضاء في عام 2004. وبعد عام، ووفق تقارير صحفية، طلب منه أحمدي نجاد قيادة وزارة الاستخبارات والأمن، لكن رئيسي رفض هذا العرض، مفضِّلًا الإبقاء على المنصب الأقوى في السلطة القضائية. وفي عام 2014 عَيَّن لاريجاني رئيسي في منصب المدعي العامّ، أكبر مدّعٍ عامّ في البلاد، واشتهر نفسه في هذا المنصب بمماطلته في تحقيقٍ في سلسلة هجمات باستخدام الأسيد الحارق ضدّ نساء في مدينة أصفهان في عام 2014. إن أكبر عوائق رئيسي سيرته الذاتية الدينية المتواضعة، فهو ليس رجل ديني رفيع المستوى، ولم ينشر إلا قليلًا من الدراسات الأكاديمية اللاهوتية، ولم يدرس في معاهد التعليم المرموقة قَطّ. وعلى النقيض من لاريجاني وشهرودي، فهو ليس عضوًا في جمعية معلِّمي قم، ولم يحظَ بكرسي في مجلس صيانة الدستور قط، وعلى الرغم من أنه تعلم على يدَيْ خامنئي في أوائل التسعينيات وأقام علاقة وثيقة مع زمرة المرشد الأعلى، فإن ارتباطه بالطلبة اللاهوتيين الآخرين محدود. وفي محاولة لتلميع أوراق اعتماده الدينية بدأ بتدريس موادّ الدراسات العليا في التوحيد في جامعة الإمام الصادق، وفي عام 2016 بدأ باستخدام لقب “آية الله”. ويعمل رئيسي أيضًا مدَّعيًا عامًّا في محكمة رجال الدين الخاصة، وعضوًا في المجلس الذي يُشرف على الطلبة اللاهوتيين في مشهد التي تُعَدّ ثاني أكبر مدينة في إيران. وعلى الرغم من أوجه القصور الدينية، فإنه يتمتع باحترامٍ كبيرٍ من زملائه أعضاء مجلس الخبراء، إذ انتُخب للمجلس في عام 2006، وبعد عامين فقط صوَّتَ أقرانه لصالحه ليحلّ محلّ روحاني لرئاسة الهيئة، التي تعمل حلقةَ وصل مع مؤسَّسات الدولة الأخرى، كما يشغل رئيسي منصب أمين اللجنة التي تُشرف على المرشد الأعلى داخل المجلس. رئيسي ليس إلا متشددًا، فهو آتٍ من المجموعة المتطرفة داخل جمعية علماء الدين المجاهدين، وهي جماعة سياسية محافظة. وفي عام 1988، بصفته مدعيًا عامًّا، أدار رئيسي الإعدامات الجماعية للسجناء السياسيين، من ضمنهم أعضاء من حركة “مجاهدين خلق”، وهي جماعة منفية تطالب بالإطاحة بالجمهورية الإسلامية. وقد يكون الأكثر أهمِّية هو أنَّ رئيسي يَحظَى بأوثق علاقة مع الدولة العميقة بين المرشَّحين، وفي العام الفائت زار قائدُ الحرس الثوري الإيراني رئيسي في مشهد برفقة بعض كبار القادة لتقديم تقريرٍ عن أنشطة الجماعة السرية على المستوى الإقليمي. وفي صورٍ للاجتماع يمكن رؤية رئيسي جالسًا على كرسي، وزائروه يجلسون على الأرض، وهذه علامة احترام وثقة لمؤسَّسةٍ أمنية تصون أسرارها. وعلى مدى عشر سنوات عمل رئيسي في مجلس إدارة “سيتاد”، وهي شركة قابضة تقبع تحت سلطة خامنئي، ولديها -وفقًا لـ”رويترز”- مصالح في إيران في المجالات الطبية والعقارية والاتصالات وقطاعات الطاقة، ولديها أصول بقيمة 95 مليار دولار. وخلال حياته المهنية حافظ رئيسي على الولاء المُطلق للخميني وخامنئي. هذا الأمر، إلى جانب حسن نيته المحافظة وخبرته في القضاء، ودهائه السياسي، جعل منه ذلك المرشَّح الرئيسي لمنصب القائد الأعلى، فهو مناسبٌ من جميع النواحي. التنبُّؤ بما لا يمكن التنبُّؤ به ويمنِّي المرءُ نفسَه أنه بموت خامنئي سيعود الإصلاحيون في إيران للظهور على السطح ليجابهوا المتشددين، ولكن بمجرَّد موت رفسنجاني، ماتت معه احتمالية وجود أيِّ تَحَدٍّ داخلي، وسيَفرِض سؤالُ الخلافة وحدةَ الصفِّ عبر الفصائل السياسية المختلفة في إيران، التي لا تزال جميعًا مكرَّسة لحماية البلاد قبل أيِّ شيءٍ آخَر. وفي الوقت الحالي أُقصِيَت الحركة الخضراء عبر العنف والتخويف، وقد هُمّش خاتمي منذ وُضعَ تحت المراقبة الدقيقة من الدولة العميقة عام 2009 (وحتى في أثناء رئاسته لم يحاول مطلقًا محاولةً حقيقيةً تحدِّيَ الدولة العميقة). أما روحاني الذي يُعدُّ معتدلًا في إيران اليوم، فهو صنيعة هذا النظام السياسي، ولكن حين احتدام الأمور، سينضمّ أيضًا إلى الصفّ، بغضّ النظر عن اختلافاته العميقة مع المتشددين. وكما هو الحال مع باقي مؤسَّسات إيران، لا رغبة لديه في تَذَكُّر مظاهرات 2009، ولا السماح بوصول “الربيع العربي” إلى بلاده. وفي الوقت الذي تَتَهَيَّأ فيه إيران لتحوُّلٍ في القيادة، من المهمّ أن يُنظر إلى الجمهورية الإسلامية على ما هي عليه حقًّا، وليس كما يتمنَّى المرءُ أن تكون. ونظرًا إلى القوة الدائمة لدولتها العميقة، فإنه يغلبُ الظنُّ أن إيران ستستمرُّ في محاولة توسيع نفوذها الإقليمي. وعندما يتعلق الأمرُ بالعلاقات مع الغرب، فمن المُحتمَل أنها ستستمر في استراتيجيتها الحذرة والبراغماتية، أي تستمرُ في تعاونها في بعض القضايا (مثل مساعدتها في مقاتلة تنظيم داعش) في حين ترفض التعاون في قضايا أخرى (مثل إبقائها على عدائيتها تجاه إسرائيل)، وما دامت الولايات المتحدة ملتزمةً بموقفها في الصفقة النووية، فإن إيران ستسمرُّ في التزامها، ولكن من السذاجة أن يظنَّ المرءُ أن الضغط الذي تُشكِّله إدارة ترامب سيُثمِرُ تغيُّرًا سياسيًّا في إيران. خامنئي يرغب في انتقال مستقّرّ، ويعتمد على الدولة العميقة لضمان ذلك، وفي خطابٍ في عام 1966 لمجموعة من قادة الحرس الثوري قسّم إيران إلى مجموعتين، “العامة” و”المطّلعين”، وشدَّد على أهمية “مستوى تفاني” المطّلعين “لمبادئ الجمهورية الإسلامية”. وأكمل: “يستسلم البعض لبريق العالَم المادِّيّ، والمؤمنون هم أولئك الذين يَبقَون على التزامهم وولائهم”. وحسب وجهة نظر خامنئي، تكمن نجاة إيران بين أيدي شبكة تلاميذه التي بناها بعناية، وسيستمرون على الأرجح في حماية الجمهورية الإسلامية لفترةٍ طويلة بعد رحيله. للاشتراك في (جوال المواطن) .. ارسل الرقم 1 إلى : STC 805580 موبايلى 606696 زين 701589 "> المزيد من الاخبار المتعلقة :
مشاركة :