لقليل من النقوش معلوم فحواها؛ بينما الكثير منها يكتنفه الغموض وهذا ما يزيد البحث العلمي تعقيدا في محاولة فك شفرتها، ولكن في هذه العقدة تكمن المتعة المتعطشة لتفسير معانيها، ولكن النقوش والرسومات الصخرية الأثرية تدل على وجود استيطان بشري ومخلفات للإنسان القديم بالقرب من المكان، لذلك هي جديرة بالاهتمام والدراسة، وقد وجدت شيئا من هذا في إحدى القرى التابعة لمحافظة أحد رفيدة بمنطقة عسير، وهي «قرية آل عمرة». عبدالكريم بن علي آل أحمد 2017-04-16 11:36 PM القليل من النقوش معلوم فحواها؛ بينما الكثير منها يكتنفه الغموض وهذا ما يزيد البحث العلمي تعقيدا في محاولة فك شفرتها، ولكن في هذه العقدة تكمن المتعة المتعطشة لتفسير معانيها، ولكن النقوش والرسومات الصخرية الأثرية تدل على وجود استيطان بشري ومخلفات للإنسان القديم بالقرب من المكان، لذلك هي جديرة بالاهتمام والدراسة، وقد وجدت شيئا من هذا في إحدى القرى التابعة لمحافظة أحد رفيدة بمنطقة عسير، وهي «قرية آل عمرة». كنز مدفون لم أكن أتوقع أن «قرية آل عمرة» تكتنز كما هائلا من تلك الآثار، حتى قمت بمسح شامل في داخل وأطراف وضواحي القرية استغرق مني وقتا طويلا، حتى انتهيت باكتشاف 64 شاهدا أثريا ثابتا موزعة على 5 مواقع، وأكثر من 14 مدفنا، وعدة منشآت حجرية دائرية ومربعة، وبعض المعثورات على سطح الأرض، وقد تفاجأت بوجود هذه الآثار المهمة ذات القيمة التاريخية، فأخذت أبحث عن إجابات مقنعة لتساؤلاتي، وحلول واضحة لألغازها، ورغم وصولي لمعرفة ما تعنيه بعض النقوش، إلا أن البعض منها ما زال يحتاج لنفس طويل في البحث، بالإضافة إلى الاستعانة بعلماء آثار حتى نصل لما نبحث عنه. وتقع القرية جنوب شرق محافظة أحد رفيدة، وفي جنوب شرق مركز الفرعين، حيث تتربع على ضفتي «وادي خطاب» المكتظ بالحقول الزراعية، كما تتميز القرية بتراثها العمراني الرائع، ففيها أكثر من 30 بيتا لا تزال بحالة جيدة، و6 أبراج طويلة، 3 منها تستعمل للحماية وتخزين الحبوب، وهي بداخل القرية؛ بينما الأخرى بأطراف القرية للحماية ومراقبة الحقول، كل هذه المباني التراثية مبنية بالطين ومزينة «بالنطف» الذي يحمي «مداميكها» من الأمطار. علاقتها مع جرش لا تبعد مدينة «جرش الأثرية» الشهيرة عن «قرية آل عمرة» سوى 30 كيلومترا، ومن المعروف أن «جرش» اشتهرت في ظل حضارات قديمة وممالك عظيمة متعاقبة وأحيانا متعاصرة كمملكة أوسان، ومعين، وقتبان، وحضر موت، وسبأ، وحمير. ولذلك فإني أعتقد أن معظم هذه الآثار الموجودة حول القرية ما هي إلا امتداد لحضارة جرش، بينما الآخر منها يعود للعصر الحجري. النقوش التي عثرت عليها قليلة الغور غير محدودة ولا منتظمة، وقد بدا لي من الوهلة الأولى أنها بخط المسند الجنوبي، لكن مع البحث المستمر اتضح لي أنها ثمودية، وهي منحدرة من الأبجدية العربية -المسند- وسميت هذه النقوش بالثمودية نسبة إلى مدينة ثمود باليمن، حيث اكتشفت هناك لأول مرة، وليس للتسمية علاقة بقبيلة أو قوم ثمود، وهذا القلم من الأقلام العتيقة، وهو أقدم من القلم النبطي المتأخر. نقوش مختلفة تقع النقوش في مواقع كثيرة من القرية أهمها اثنان: الأول عبارة عن واجهة صخرية كبيرة مستوية ملساء يقدر طولها بمترين ونصف المتر، وعرضها متر ونصف المتر، وتحتوي على حروف متكررة ومتناثرة بشكل عشوائي، بينما الآخر واجهة صخرية مماثلة للأولى إلا أن طولها يقدر بمتر ونصف المتر وعرضها متر، وتحتوي على حرف متكرر 13 مرة، ورسمتين آدميتين، حيث نشاهد في كلا الرسمتين إنسانا مستقيم الجسم، والذراعان ممدودتان على مستوى الكتف بشكل مستقيم، وكان النحات دقيقا في رسم الأصابع الخمس لكل يد، والأرجل مستقيمة ومضمومة، كما يبدو على الرأس شيء ما لعلها خوذة أو قبعة أو عمامة. الحرف المتكرر عثرت على عدة رموز وكتابات مخربشة، ولكن ما شدني في الأمر ذلك الحرف المتكرر في الكثير من الصخور، وفي الواجهتين الصخريتين اللتين سبق ذكرهما، وبلغ تكرار هذا الحرف أكثر من 35 مرة وغالبا بصورة منفردة، وهو حرف «الواو» وشكله بالكتابة الثمودية مربع مقسم من الداخل لأربعة مربعات، واحترت كثيرا في مدلول تكرار هذا الحرف، حتى رجحت فرضية أن هذا الحرف يعتبر علامة أو وسما للقوم الذين استوطنوا هذا المكان قبل آلاف السنين، ولتحديد رقعة الأرض التي يسيطرون عليها، وخلال بحثي وجدت أن بعض الإبل موسومة بمثل هذا الوسم، ولعل ذلك مؤشر لصحة ما رجحته، وإن كان الأمر يحتاج لبحث أكثر. رسومات مميزة تحتوي الرسوم الصخرية في القرية وما حولها على مجموعة متنوعة من الرسومات الصخرية المميزة، فمنها ما يجسد مناظر حيوانية وبشرية ورمزية، وتعد هذه الرسوم سجلا للماضي الذي يكشف لنا عن أنشطة الإنسان الاقتصادية والاجتماعية وعن طبيعة علاقته بالبيئة التي يعيش فيها، ومن أبرز الرسومات الحيوانية التي تم رصدها الإبل، والخيول، والأبقار، والوعول. وجاءت الوعول والخيول أكثر الحيوانات التي تم رسمها، مما يعكس الأهمية المعطاة لمثل هذه الحيوانات، ثم حلت الإبل في المرتبة الثانية ومن بعدها البقر، يضاف إلى ذلك تفاوت أزمان هذه الرسومات، ولعل أقدمها رسمة منفردة لوعل بقرون معقوفة للوراء بالأسلوب الإطاري، ويلاحظ فيه التئام غشاء العتق حتى أصبح لون النحت كلون الصخر، ومثل هذا يحتاج لآلاف السنين حتى يصل إلى ما وصل إليه. أما من ناحية الرسوم الآدمية فقد جاءت أكثرها تصور فرسانا ممتطين الجياد وبأيديهم رماح طويلة وهم في حال حرب وعراك، وأخرى قد تكون في حالة صيد، ومن المعلوم أن مثل هذه المناظر الغرض منها تجسيد ذكرى معاركهم وبطولاتهم التي خاضوها. وقد جاءت رسوم قليلة تصور أشخاصا ممتطين الجمال، كما جاءت رسوم آدمية بصورة منفردة. مستوطنات بشرية كما ذكرت سابقا أن تلك الشواهد الصخرية الأثرية تدل على وجود استيطان بشري حولها، فقد عثرت على منشآت حجرية مربعة ودائرية مبنية بصخور كبيرة للغاية ومقطعة بشكل شبه مكعب في عدة مواقع حول قرية آل عمرة، تدل على أنها كانت مستوطنات بشرية، ولطالما كنت أسأل عنها كبار السن فلم تكن الإجابة سوى أنها «محاليل بدو حديثة»، لكن هذا الجواب لم يكن مقنعا لي على الإطلاق، إذ كيف للبدو القدرة على تقطيع وحمل مثل هذه الصخور التي تزن الواحدة منها عدة أطنان، يضاف إلى ذلك أني قمت بمسح شامل لهذه المستوطنات فعثرت على ملتقطات على السطح، مثل المكاشط الحجرية والمتناثرة بشكل كثيف، كما عثرت على مجرشة صغيرة، وكسرة من رحى. وبناء على ذلك فالمكاشط هي أدوات كانت تستعمل في العصر الحجري، وقد سلمت قطعة المجرشة لهيئة السياحة والتراث الوطني لفحصها وتسجيلها، وبناء على هذه الدلائل أعتقد أن هذه المنشآت هي آثار لمستوطنات منذ العصر الحجري، ولا أنكر أن البادية الحديثة فيما بعد قد استوطنت على أنقاض هذه المنشآت. بين التحذير والسحر هنالك رموز غامضة لم أفهما حتى الآن، وأرى أنها تستحق دراسة من قبل المختصين بعلم الآثار، وأبرزها رسمة عبارة عن يد بشرية قد رسمت من مفصل الكتف، وبأصابع مستقيمة، وقد استخدم فيها أسلوب النحت الكلي، وتقع هذه الرسمة في موقع قرب قرية آل السواد المجاورة، وقد ذكر الباحث الدكتور سليمان الذييب أن مثل هذه الرسمة تعني علامة تحذيرية، بينما يعتقد الدكتور مسفر بن سعد الخثعمي أن لذلك علاقة بأعمال السحر، وبقراءة الكف المرفوعة رمز عند الأنباط لأحد الآلهة. ويؤكد ذلك الأستاذ عبدالرحمن بن حماد، إذ يرى أنها علامة دينية. وستظل هذه العلامة ملفتة للنظر بشكل كبير. طرق الدفن كان للإنسان القديم قبل الإسلام طقوس وطرق معينة في دفن الموتى، ومن تلك الطرق المدافن الركامية الدائرية والمذيلات، المنتشرة فوق سلاسل التلال والجبال حول القرية، وأعتقد أن تلك المدافن الجنائزية معاصرة للمنشآت الحجرية، وقد رصدت أكثر من عشرين مدفنا ركاميا ومذيلا، والمدافن الركامية هي عبارة عن ركام من الحجارة المكدسة بشكل عشوائي، تتوسطها غرفة الدفن، وقد كانت من قبل مبنية بعناية وبطريقة المصاطب، ولكن مع مرور الزمن تعرضت للخراب، وأخذت معظم حجارتها لاستعمالها في أغراض أخرى، وأما مدافن المذيلات فهي غالبا ما تكون مرتبطة بالمدفن الركامي وممتدة عشرات الأمتار، وربما أن عظيم القوم كان يدفن في المدفن، بينما يدفن أفراد ذريته في المذيلات. بدوري، قمت بإبلاغ الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني عن تلك المواقع الأثرية، لتقوم هي الأخرى بدورها بالحفاظ عليها ودراستها، ومن هذا المنبر أشكر مختص الآثار بالهيئة الأستاذ عبدالرحمن بن حماد الذي تجاوب وتعاون معي بشكل كبير، إذ ظهر على هذه المواقع الأثرية، وقام برصدها وتصويرها وتحديد مواقعها، ومن ثم رفعها للهيئة. فأصدر رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز قرارا يوجه فيه باعتماد تسجيل هذه المواقع في قرية آل عمرة كمواقع أثرية. مخاوف تجاه الباحثين رغم اقتصار مسحي المتواضع على رقعة محدودة، فإني على يقين أن جميع الأماكن والقرى المجاورة تتواجد فيها آثار كثيرة لم تكتشف بعد، ولكن الواقع أن هنالك مخاوف لدى بعض أفراد المجتمع تجاه الباحثين، أو حتى من إبلاغ الهيئة بهذه المواقع، ظنا منهم أن ذلك قد يشكل ضررا عليهم، والحقيقة أن مثل هذه المخاوف يجب أن تتبدد بنشر الوعي، وأن تكون هنالك رسائل تطمين للمجتمع من قبل الهيئة، فمن يجد آثارا في أملاكه الخاصة يجب عليه قبل غيره أن يحافظ عليها ويفخر كونه يمتلك هذه الآثار في أرضه، وأن يفتح صدره للباحثين والدارسين لفحصها ودراستها. وأخيرا إن مثل هذه الآثار تشكل رصيدا حضاريا للوطن، حريا بنا جميعا أن نصونها. ـــــــــــــــــــــــــــــ * باحث في الآثار
مشاركة :