منذ صغري أكره المسلسلات والأفلام، وأبداً لم أكن مستعدة للجلوس أمام التلفاز قديماً أو الشاشات الذكية حديثاً كالموبايل وغيره لمشاهدة فيلم أو مسلسل، فسمة الفضائيات الخداع، وأنا لست مستعدة لأن أكون ضحية خداع، ولست مستعدة أيضاً لإهدار وقتي مع فيلم يملي عليَّ مخرجه كيف أفكر، ويفرض عليّ أن أُعجب بمَن وأكره مَن. تدور الأفكار في نفسي كإعصار غاضب يحدث فوضى عارمة أينما يحل ويرتحل، إلا أن عقلي يقيدها ويأبى عليها الخروج، يصر على بقائها كامنة صامتة، فتثور حروفي.. تصرخ داخلي، تشتعل، تحرقني.. ماذا أفعل؟ أأتركها كالمارد تنطلق كما تشاء، تدمر، تصرخ، تُغير؟ أم أُبقي السلاسل تقيدها وتثقل نشاطها وخطواتها؟ ألتجئ إلى الفراش لمدة تطول أحياناً هرباً من هذا الصراع الذي يؤرقني، وأعتكف على فضيلة الصمت، فقد وصلني عبر تعاقب الأجيال أن الانحناء أمام العواصف هو أفضل وسيلة لتجاوزها، فقد أخبرت جدتي أمي بذلك، وأمي حاولت إقناعي به، رغم تمردي الذي كانت أمي قلقةً بشأنه دوماً، وتتهمني بسببه بأنني أتشبه بالرجال، وبأنني أبعد ما أكون عن الأنثى. كنت أسخر من كلامها وأسألها: أيجب أن ألغي شخصيتي وفكري، وأكون ضعيفة لا تستطيع الدفاع عن نفسها وحقها لأكون أنثى؟ فتقول: أستغرب جداً منك، لماذا أنت هكذا؟ أنت لا تشبهينني في صفاتي، من أين لك هذه القوة والجرأة؟ أخاف عليك أن لا تتزوجي، فالرجال هنا يبحثون عن المرأة ذات الأنوثة الظاهرة ليرتبطوا بها، وليس عن المرأة القوية كعسكري مثلك!.. كنت أضحك وأسألها: وكيف لي أن أبدو أنثى من وجهة نظرك؟ فتقول: عليك ألا تناقشي، ولا تعترضي.. وافقي على كل شيء حتى وإن لم يوافق رغبتك، فقط أطيعي، ولا تفكري. وهي المعادلة الذهبية التي يُنصح المواطن العربي باتباعها والسير بمقتضاها في بلادنا، ربما ليحافظ على حياته، أو رزقه، وربما هو صرفٌ من السلامة، لا تُنصح الأنثى فقط بهذه المعادلة، وإنما تُنصح بها المجتمعات التي تفتقد العدالة والمنطق، والتي يكون الجور ديدنها، الجور للجميع بلا تمييز؛ حيث تقسم تلك المجتمعات إلى سادة يأمرون، وعبيد يطيعون ويحنون رؤوسهم، وحياة الغاب التي تعيشها مجتمعاتنا العربية قاطبة تشعرني بالقرف والاشمئزاز، فالظلم والجرأة على المقهورين يولدان في نفسي ثورات لا تكاد تهدأ. قرأت قبل فترة على "Google reads" عبارات مقتبسة لجبران خليل جبران: "لا تعش نصف حياة ولا تمت نصف موت، لا تختر نصف حل، ولا تقف في نصف الحقيقة، لا تحلم نصف حلم، ولا تتعلق بنصف أمل، إذا رضيت فعبر عن رضاك ولا تصطنع نصف رضا، وإذا رفضت فعبر عن رفضك؛ لأن نصف الرفض قبول، النصف هو حياة لم تعِشها، وهو كلمة لم تقلها وهو ابتسامة أجلتها، النصف هو أن تصل وألا تصل، أن تعمل وألا تعمل، أن تغيب وأن تحضر، النصف هو أنت عندما لا تكون أنت؛ لأنك لم تعرف من أنت، نصف شربة لن تروي ظمأك، ونصف وجبة لن تشبع جوعك، ونصف طريق لن يوصلك إلى أي مكان، ونصف فكرة لن تعطي لك نتيجة، أنت إنســان وُجدت كي تعيش الحياة، وليس كي تعيش نصف حياة". أتذكر تلك الكلمات وتشتد ثورتي، فالمطلوب منا أن نعيش أنصافاً في كل شيء، مطلوب منا المواربة في كل شيء، حتى نكون مواطنين مثاليين، والمصيبة أن أغلبنا يؤمن بذلك ويقتنع بصحته، ويعتقد أنه من مستلزمات الحياة الحالية، وتباً لها من حياة، أن تكون نصفاً. آهٍ لأفكاري الكثيرة التي تربكني وتجعلني أنسى وجودي، وتسرق اللحظات والأيام من عمري وأنا أمكث في ذات المحطة السوداء، قد يعتقد البعض أن هذا ضربٌ من الجنون، ربما، لا أجزم، رغم أنني أعتقد أن الجنون بعينه هو البقاء عاقلاً في عالم عربي ينكر العقل ويكفر به، عالم يزدحم بالمجانين. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :