الرواية للكاتبة المتميزة انتصار عبدالمنعم، وهي كاتبة بُحَيْرِيةُ المولد والإقامة، سكندرية الهوى، مثقفة لها العديد من الإبداعات القصصية والروائية، أما رواية "كبرياء الموج" فتضم إبداعا متميزًا، في إطار متراص مقسّم إلى أربعة عشر عنوانا، يكاد كل منها يمثّل قصة داخلية أو متفرعة لها فكرتها، إلا أنها تحمل في طياتها إجابة لما سبقها، كما أنها تشير شغف المطالع لتتبع ما بعدها، وكأنها كل منها تطرح سؤالا، تجيب عنه التي تليها. أما تلك الفصول أو القصص المتفرعة المتتابعة فهي: (فرسكا، محبة أم اشتهاء، العمة بسيمة، مدرسة الشغب الصباحية، شجرة الزيتون، الطير الجارح، نعناع أخضر، مذاق مختلف، بائع الذرة المشوي، فنجان قهوة، زينب آل زيتون وزينب الهلالية، سيدي عبدالرازق، بئر مسعود، وقفة). وتدور أحداث الرواية عن تلك المرأة الجميلة المحافظة، التي تفقد الذاكرة أو تكاد، في منطقة الزمكان في بعدها اللامرئي الخاطري، وتختلط فيها القرية بالمدينة، والريف بالحضر، من حيث الثقافة والفكرة والوجدان والسرد. وذلك على اختلافات تفصيلية بين كل عنوان أو قصة وأخرى، حيث إنه قد تضيق مساحتها السردية والحَدَثِيَّة، وقد تتسع. والرواية عمل سردي بامتياز، تظهر فيه إمكانات الكاتبة الحكائية واللغوية، كما يتبلور فيها محاور فكرية وأطر ثقافية، وإسقاطات اجتماعية وأخلاقية وسياسية وعرفية. ومن الإنصاف أن نسلم للرواية بجودتها وتميزها، وكوْنها إضاءة في ساحة الأدب، ولكنها من حيث هي عمل إبداعي بشري، فتجد فيه ما قد يدهشك من فرط جمالياته وإبداعه، وقد تجد ما يستوقفك وتحار في توصيفه، كما تجد ما يعدُّ في عرف صنعة الأدب مثلبا أو عيبا أو خطأً، أو ما هو خلاف الأولى تقديريا لوجهة نظر أو تقنيا وفنيا. ولاستبانة ذلك العمل الأدبي المتميز نحاول أن نقرأه قراءة تتيح لنا التأمل في ثنايا السرد الإبداعي للكاتبة، والتفكُّر في الأساليب والجماليات والدلالات ومدلولاتها. وذلك في بعض من محطات "كبرياء الموج" وفق الآتي: • قراءة عامة للرواية بناء وأسلوبا: - الإهداء: الإهداء نرصده في عمق دلالي واغتراب شعوري، وترسيم ملامح بارزة للأسى، وقد استعملت الكاتبة فيه أسلوب الالتفات، ولكنه الالتفات المجازي الأدبي، حيث التفتت من المتكلم (أنا) إلى المتكلم (أنا)، وهذا غير جائز في الوضع اللغوي، إلا إنه إن كان في سياق أدبي متمكن أضاف بعدا جماليا، وهذا ما اجتازته الكاتبة، فصنعت من ذلك الجواز البلاغي انفتاحا دلاليا حول الضمير (أنا) أهو الكاتبة ذاتها، أم (أنا) المتنازعة في ذاتها المنشقة عليها، أم أنا الرمز في الرواية أم أنا الرمز المطلق للإنسان والشعور والفكر والمنطق، أم أنا الوطن، أم غير ذلك؟ وهذا مع جماليته وإحداثه الدهشة المباغتة للمطالع إلا أنه يوقعه في حيرة، قد تدفعه إلى شغف المطالعة لذلك المسطور المغلف بتلك الحالة الغامضة المفعومة بالغربة، وقد يدفعه إلى التوقف متأثرا بالمباغتة في إدهاشه، ومحاولة استيقاف النص ومحاكمته إلى المنطق، وقد ينسى في ذلك المنطق الأدبي أو المنطق البلاغي، ولعل تعجل الرغبة في إدهاش المتلقي كان لها أثر بارز في تلك المجازة. - اللغة: الكاتبة تستعمل اللغة السهلة الواضحة الماتعة للمطالع، وتمتاز بإجادة أدواتها وعلومها الضابطة، فنادرا ما تجد خطأ نحويا أو صرفيا، بل نادرا ما نجد خطأ مطبعيا، وهذا بلا جدال نقطة امتياز خاصة، دلت على وعي الكاتبة وإتقانها لأدواتها وتعهدها للرواية بالمراجعة والتدقيق، واهتماها بالنص الأدبي المُصاغ، واحترامها للقارئ. ومن المثالب النادرة في هذا: - ص129: استعمال (أن) بعد (أم)، في قولها: [أم أنه لا يحفل بالوحيدين مثلي؟]. و (أم) يأتي بعدها بداية كلام فناسبها استعمال: (إن). - ص129: إملائي (وسيجته) وصحتها (وسجنته). - السرد وخصيصة الحكي: لا يجد المطالع لنص الرواية أي مشقة في استبانة مهارة الكاتبة السردية وتقنياتها العالية، وبرعاتها في عرض السرد وطيه فرشا ونشرا وإيجازا وإضمارا. ولكن سردها رغم سهولته الظاهرة إلا أنه يحتاج كثيرا من التأمل في فكر المطالع، فإمكانية الربط بين الفقرات والنصوص تحتاج أحيانا إلى إعادة قراءة الفقرة ذاتها أو التي تسبقها أو تلك التي سبقتها في عنوان أو قصة سابقة في الرواية. كما أن السرد أحيانا تغلب عليه الفكرة ومحاولة إبرازها، غلبة قد تتغاضى الكاتبة في سبيلها عن استعمالها لأسلوب جمالي، وهذا عكس ما فعلته في الإهداء. ويبدو السرد متتابعا، كأجزاء متسارعة، تستوقف نفسها مع كل دفقة في الفقرة، حيث يفتقر الحدث لرابط فني، أو لغوي. وهذا يحيل الذاكر إلى النصوص الأدبية الأجنبية، في اللغة الإنجليزية أو غيرها في معظم اللغات الغربية، حيث إن الرابطة رابطة ذهنية في الأساس لا رابطة لغوية. - الأحداث: الحدث فرع عن الظرفية في الزمان والمكان، ويكمن غناء الحكي القصصي في ثراء أحداثه، وأشخاصه وتنوعها ودهشاتها، وفيها تدور الحبكة والعقدة، ثم انبساطها في إحداث المتعة الذهنية للقارئ من خلال المكافأة المعنوية التي يمنحها الكاتب، من خلال حل العقدة وبسط الحبكة، كانتصار البطل أو حل اللغز وكشف السر، أو التصاعد التراجيدي في النهايات البكائية الحزينة. والظاهر أن الكاتبة لم تهتم بهذه التقنية حيث تغلبت عليها فكرة السرد المجرد، والإسقاط الثقافي والاجتماعي، ومحاولة معالجة الفكرة، وآثرت أن تغامر مع القارئ معتمدة على وعيه وحسه الثقافي حينما تقيم معه حوار العقل، في أسلوب أدبي شيِّق بعيدا عن مؤثرات الحبكة المفتعلة الممتدة أو المتجزئة. ولهذا كان بطل الأحداث منطقة الزمكان الذاتي القار في الوجدان، فهي تحاول جذب المتلقي إلى زمكانه الخاص وتقيم حوارا وجدانيا ذاتيا معه (أنا وأنا) لنصل إلى نحن وأنت وأنتم وهو وهي وهم وهن وغيرهم، بحيث تكون الذات متكأً ومرتكزًا للانطلاق نحو الغير والمجتمع وقضايا العرف والعدل والمساواة والحرية والوطن والعالم كله، كل ذلك في ظاهره المادي ووجدانه المعنوي ومكنونه الذاتي. - الأشخاص: الأشخاص من أهم محاور الروية وعناصرها الفاعلة في الأحداث، وهي تتعدد بشكر ملحوظ في الرواية التقليدية متصاعدة الحدث في ظرفي الزمان والمكان، إلا أنها تتقزم وتتضاءل أهميتها التعددية، كلما تضاءلت أهمية الأحداث الإدهاشية في التصاعد أو التتابع، وهذه الظاهرة من أهم سمات رواية الزمكان، وبخاصة منطقة الذات، وهو ما أبدعت فيه الكاتبة، فالقارئ يتابع الزمكان الذاتي أو الخاص الذي صنعته الكاتبة وأَطَّرَتْه فيه، بل جعلته يصنع زمكانه الخاص، ثم يقيم هو تلك الروابط بين زمكان الكاتبة وزمكانه هو، فيكون القارئ شخصا فاعلا في السرد والأحداث، وقد استطاعت الكاتبة ببراعة أن تقيم تلك العلاقة وتجعل من القارئ – كل قارئ- بطلا في الرواية، ومن أفكاره وتخييله وتصوراته عما تطرحه من أفكار وأحداث أكثر نشاطا وأمضى أثرا في ذهن المتلقي. كما أن الحوار القصصي التقليدي لم يأخذ دوره أو حجمه المستحق، ونلحظه في ومضات سريعة، مثل ما جاء بالربع الأخير من ص130. • قراءة في عناوين الرواية: - قصة: "فريسكا": آثرت الكاتبة أن تُدْخل المطالع في أحداثه السردية بطريقتها الخاصة، فبعد أن باغتته وأحدثت الإدهاشة الأولى من خلال الإهداء، أسرعت في متابعة الإدهاش التقني البلاغي فاستجمعت فكره في عنوان جذاب، علم على أجمل أوقات المتعة والمرح على شواطئ الإسكندرية، (الفريسكا) تلك الحلوى المُبَسْكَتَةُ، وما أن يترسم الصورة إلا وتباغته مباغتة جديدة، بذلك العنوان التصديري للإيلاج في عالمها الزمكاني المُتَخَطِّر الوجداني، وهو: [موج على موج نتف السحاب لنا أيك] وهذا العنوان التصديري بعد العنوان الفرعي، مع أهميته في تصاعد عملية الإدهاش والرغبة أكثر في جذب المتلقي إلى منطقة الزمكانية الخاصة بالكاتبة، حتى تدمج ذلك المتلقي معها في سرد واحد، لتصنع منه بطلا في سردها الروائي، إلا أنه يطيل منطقة العنوان، ويجعل منه زمكانا منفصلا عن الرواية، وقد يشتت المطالع. وقد سيطر المكان على فريسكا، مع استدعاء الأسطورة المتبلورة في الوجدان الصوفي، مثل: (أبو العباس - الشاذلي)، كما أنها استدعت مكانا آخر من خلال استدعاء أسطورة أخرى (البدوي)، وكأنها تنشئ إطارا للمعنى زمانا معها في مكانها، فتؤطّر تأطيرا جديدا لفكرة الزمكان، ولكن هذا الاستدعاء جاء متزاحما، فكل رمز من رموز الأسطورة هو حدث بزمانه ومكانه وحكاياه قائما بذاته. ثم تتبعها بأساطير أخرى، ولكنها على طرف النقيض في الدلالة الذهنية على المستوى العقيدي والوجداني، مثل: (حابي – العرَّافة - الحورية – عروس البحر). ولعل تزاحم الأسطورة يرهق خيال القارئ ويشعره بالتشتت والتشظي في الزمان والكان وتصور الأحداث، ومن ثم تمييع فكرة الزمكان ذاتها. وفي زحام من السرد وإضفاء أجواء الغرابة في الحكي، لم تراع الكاتبة النظير في التشبيه والدلالات، ومراعاة النظير من أهم فنيات الجمال البلاغي في التشبية أو المجاز أو غيرها. ومثل ذلك: الجمع بين البحر والصحراء. تعبير أن الماضي يأتي أمام. النوارس تقطر عليهم زبد البحر – حينئذن يتطهرون: الصحيح أن الزبد في البحر تلوث لا يتطهر به، والنوارس لا تطير أو تسبح أو تصيد منه، وإن أراد الأديب أستعمال هذه الصورة فإنها تدل على الاستقذار والفساد لا التنقي والتطهر. استعمال (كما) مع: الماضي هو – الأمور التي بدأت تتسرب من ذاكرتي: التعبيران في الماضي: أما كما فتستعمل للتشبيه بين مختلفين، وكلا التعبيران يفيد الماضي فأين الاختلاف وأين مقتضى التشبيه؟ جمع القلق والحيرة مع أسطورتي أبي العباس المرسي والشاذلي، وهم هم من أهل التصوف والولاية بما يطبعه ذكرهم من عالم من السكينة والاطمئنان. يعمدني بحر الأنفوشي. و(التعميد) علم على طقس ديني خاص، لا حكي قصصي في بيئة مغايرة، فليس البيئة مسيحية محضة، ولا الكاتبة كذلك ولا الأشخاص أو الأحداث. هذه التصويرات المتزاوجة تجتمع كل منها في دلالتين مفترقتين، دون مقتضى من مقابلة أو تضاد، حيث فقد النص للقرينة الدالة. ومن شأنها تضعف تفاعل المتلقي مع النص وتقيم أكثر من حاجز معنوي في التواصل الإدراكي. وقد أرادت الكاتبة ظهور أشخاص روايتها بدءًا من فريسكا، فأدخلت (حسن) ثم (زينب)، ومع جمال الوقع والتأثير، إلا أن ذلك الظهور جاء مقحما بعض الشيء، فلم تمهد له الكاتبة في ذهن القارئ، ولعل شغف الأسلوب الإدهاشي سيطر على أحداث الرواية، لتنقلنا إلى شعور البطلة بعدم كفاية الزمان لأحلامها، فهي تتسارع وتفاجئ وتدهش لأن ليس هناك زمن زائد في الحياة كي يُهدر في شيء غير الحدث المهم للأشخاص المهمينة. ثم جاءت التصوير أحيانا في مبالغة، هذه المبالغة قد تأتي بعكس المطلوب منها، لما تحدثه في ذهن المتلقي من صدمة، مثل: تعبيرات: (قبل أن يوجد الكون – قبل أن توجد الحدود – الطيران في قلب الشمس – الحياة بين مخالب الأسد)، فكان الأولى أن تدعمها الكاتبة بقرينة تخفف من هذه المباغة، أو تضع لها معادلا موضوعيا يعمل على معادلة الشعور الوجداني بالصورة. - قصة: "مذاق مختلف": يبدأ هذا المقطع بعنونة تصديرية، على نمط بارز مختلف الخط والحجم، مما قد يفصل شعوريا القارئ عن باقي النص، ولكنه يبدأ مع القارئ في مستوى وجداني جديد، أي أن الكاتبة أرادت تهيئة المطالع لأجواء سردية جديدة، بطريقة مباشرة، وكأنها تتعجل ذهن المتلقي، وهذا إن كان من فنيات ومميزات الأقصوصة، أو القصة القصيرة، فإنه من مثالب العمل الروائي، لأن القارئ للرواية متمهل في تتابع أحداثها، يبغي الإمتاع الأدبي الذهني، ومن ثم ينتظر من الكاتبة أن تدمج له تلك التصويرات والمعاني المتضمنة في العنوان التصديري في السرد الحاصل في قادمة الحكي، أو أن تضْمره مطمورا في عنوان الفصل أو القصة الفرعية، أما انعطاف الكاتبة عن هذه التقنية ولجوئها للمباشرة من خلال العنونة التصديرية، قد يفسره البعض بضعف الكاتب في إدماج تخيلاته في سياق السرد، وينقل صورتها إلى المتلقي في الوقت والحدث الذي يريد، ولكنه يمثل أسلوبا جديدا وجادا في رسم مجمل ومضمر لأحداث الفصل، أو لكرة القصة الفرعية، تعين المتلقي على التخيل المجمل، حتى إن انتهى إلى التفاصيل التالية، ضاعفت عنده المتعة الذهنية الحاصلة، بالمقارنة بالأسلوب التقليدي. كما استعملت الكاتبة التشبيه البليغ ببراعة، واستطاعت من خلال صورة مدمجة من جزئين أحدهما مادي والآخر معنوي، أن تبرز تخييلا عذبا مدهشا ماتعا يجسد المعنى في دلالاته بأجوائها المختلفة، مثل (هزائمنا مثل سجائرنا)، صورة جمالية فريدة، ومفيدة في الاستدعاءات الدلالية على مستوى الرواية. ثم جاءت صورة غرفة العمليات، وما فيها من تصوير جزئي لأدوات وأجهزة وأطباء والتخدير ومساعدين، لترسم صورة الألم والغياب والمكاشفة، والخوف واليأس، والتيه والأسى، والتمرد على الحياة والرغبة في الهروب. وكذلك استعملت الكاتبة أسلوب الدلالة بعلامات الترقيم، وقد برعت في معظمها، ولكنها أحيانا لم توفق، ومن ذلك: ص85 (لا، ) حيث استعملت الفاصلة المجردة المهملة، في غير ما تعبر عنه، وهذه الفاصلة تستعمل للفصل بين عبارتين أو جملتين بينهما رابط في المعنى، ولا تأتي في نهاية الجملة التامة، ولا بعد الكلمة المنفردة، الخالية الدلالة عن الجملة أو شبه الجملة، سواء أكانت فعلا أم اسما أم حرفا أم خالفة. أما إن أراد الأديب استعمالها استعمالا أدبيا لأغراض الإسقاط أو المفهوم لمسكوت عنه أو الانفتاح الدلالي، فتوضع النقاط المتتابعة بعد الكلمة المعنية أو الفاصلة بعد النقاط المتتابعة، وذلك مثل: (لا ...) أو (لا ... ،). ونلحظ عند الكاتبة مفهومي الانفتاح الدلالي والشيوع الدلالي، الأول مصطلح فني جمالي طالما استعمل بضوابطه ودلت عليه القرينة، أما الآخر وهو (الشيوع الدلالي) فمرهق للذهن، ذو حدين، فإما أن يصير من جماليات النص، وإما أن يصير عبئًا على النص، فيفسد المعنى، وذلك إن خلا من القرينة وضوابط الدلالة على المعنى منفتحا أو محددا، إذ هو من قبيل العشوائية الدلالية، أو لإبانة المسكوت عنه، وهو عندئذ تقنية دلالية شديدة الجمال. وقد استعملت الكاتبة الشيوع الدلالي الجيد الدال على المدلول في سياق رشيق المعنى مفعم بالجمال، وذلك في غير موضع مثل: - لا ... لا شيء. - كل المواضع صارت مشاعا. - خاضعة خانعة رغما عني. - السرير (مكررة). - التكشف (مكررة). - الملاءة. تم تومئ الكاتبة من خلال تخييل تصويري إلى أن الجسد سجن، والروح ترغب في الانطلاق من القهر والعجز والألم، وتخاف من التكشف والعري، في الأخلاق في الوطن في الفضيلة، وهي معاني وأجساد تريد أن تستتر أو تتطهر، ولا تجد من يفهمها، ثم يظهر د. شادي ... من يفهمها ويحاول أن يتواصل معها ويطمئنها وينقذ تلك المعاني، يريد أن يعيدها إلى الحياة، أن يعيد الإنسان ... يعيده من أو إلى سجن الروح – الجسد- أو سجن الزمكان. - قصة: "بئر مسعود": ذلك المكان الخلاب المفعم بالأقاصيص والحكاوي والغرام والعشاق والأسطورة والأحلام والأماني، المرتبط بزمانه العلمي عليه، زمن الصيف، ومكان ذو دلالة زمكانية خاصة جدا، يبعث على إثارة الذكريات الحالمة، وشجن النفوس. تبدأه الكاتبة بعنوان تصديري أيضا، نحيل فيه إلى ما سبق. ثم هي تستعمل أسلوب الالتفات، من ضمير المخاطب (أنا) إلى ضمائر الغيبة المتصلة: (به - له)، بطريقة مفاجئة خالية من القرينة في مقتضى النص، مما أفقدها مرعاة النظير، المباشر الظاهر، لتحيل إلى النظير الذهني، الذي يقدح عقل المتلقي، فهي تحاول بطرق شتى التواصل مع عقل المطالع، ثم توصل إليه الإمتاع الأدبي من خلال تلك الرابطة الذهنية أو العقلية. كما استعملت الكاتبة الالتفات في مواضع أخرى، وأبدعت منه جمالا خلابا في المعنى والمبنى، ومن ذلك قولها: [وهل أوشوش المعدن؟ وحده البحر يسمعني دون حديث مني]، فقد التفتت عن ضمير المتكلم المستتر (أنا) إلى ضمير الغائب المضمر في (وحده) ثم الاسم (البحر) ثم عادت للمتكم بالياء (مني)، أسلوب التفات مترابط جذاب. وتجيد الكاتبة استعمالها لتقنية المقابلة، وهي من جماليات النص الأدبي، وتعمل على إظهار المعنى وتوضيحة وتوهجه في ذهن المتلقي، ولكنها لا تستعمل فيه بالنقيضين في الدلالة على محل واحد بغرض المشابهة لا المفارقة، وقد وقعت الكاتبة في هذا حين قالت عن مسعود صاحب بئر مسعود فشبهته: (ولي / ولد ضال)، وشتان بين الولي الصالح صاحب الكرمات، وبين الولد الضال أي في الضلالة. ولعلها أرادت في جمالية جديدة ومن خلال تلك الصورة المستوقفة ذهنيا ووجدانيا، أن تبرز لنا مدى الهوة السحيقة التي قد نصل إليها، فمن قمة الولاية والنقاء والتواصل الإلهي، إلى أدنى حضيض الضلالة، هي تصرخ أحذروا وأنظروا إلى واقعكم وإلى ما أنتم إليه صائرون وسائرون، بالمقارنة لما كنت عليه زمن الذاكرة، زمن الوعي، زمن التاريخ والحضارة. وغالبا ما تبالغ الكاتبة في تشبيهاتها وصورها، وما تبعثه من خواطر في سردها، إلا أنها قد تغلب عليها الفكرة فتنسى دلالة المشبه به، وقد يقع الضعف في الصورة والتشبيه وبالتالي في بلورة المعنى والدلالة في ذهن المتلقي. ومن ذلك قولها: [وأعمق من بئر مسعود] وهو تشبيه بليغ، ولكنه ضعيف؛ لأن بئر مسعود ليس بئرا حقيقيا ممتدا في الأغوار، فالبئر مقيد بمسعود أي أنه يصدق على ذات خاصة غير عامة أو مطلقة، فهو أقرب ما يكون إلى حفرة قريبة المدرك غير عميقة. وهذه من العلم العام لدى رواد البئر وعشاقه، ومن ثم فتشبيه عمق الآمال بعمق هذا البئر أضعف من عمقها من حيث العدد والغور في النفس والمعنى. وأحيانا تستعمل الكاتبة المجاز الخارج عن الدلالة، أو غير المرتبط بقرينة دالة، مثل كلمة (يعمدني) ص130، والتي سبق استعمالها في غير موضع مثل: (فريسكا)، ولكنها – هنا - تقرن بينها وبين عبارة أخرى أكثرت من البعد عن القرينة، وهي في قولها: (في ماء زمزم)، ومعروف أن التعميد عَلَم على طقس مسيحي، أما ماء زمزم فيرطبت بطقوس إسلامية في الحج والعمرة والتبرُّك، فلا قرينة تربطها، فهي أحكام لطقوس تفصيلية لشريعتين مختلفتين، ومن المعلوم أن الديانات السماوية بينها روابط قوية في أصل المعتقد والتوجه الأعلى، بينما بينها خلاف مستحكم في تفاصيل العقيدة والطريقة العبادات والشريعة، خلافات تصل لحد الاحتراب في حقب زمنية متعددة. فهذه المفارقات تضعف التصوير التشبيهي لدرجة أنها تفسد المعنى ودلالته على المدلول. والكاتبة في هذه الصورة التي تبدو خالية من الترابط، لم تعبأ بتلك الإحالة الذهنية المباشرة، ولكنها أرادت توجيه المطالع إلى بعد أكثر عمقا وأجل خطرا، إنها إشارت من خلال تقنية المسكوت عنه، تشير بها إلى مدى الخلط الحاصل في المفاهيم والإدراكات، والمبادئ، وهو خلط لا ينبغي تجاوزه دون الوقوف عليه، بل يحتاج إلى مراجعة عميقة. ولكنها قد تزيد التصوير إلغازا من خلال (زيت مقدس) ص130، لم تبن لنا عنه فهو تصوير وتشبيه من قبيل المطمور الغامض، فكيف يتوصل به إلى مدلول محال إليه. ثم تريد الكاتبة أن تسقط كثيرا من معاني الإحباط والخوف والتيه والخبل لدى قطاعات من المجتمع، في تجلي الحقائق ومعانيها، وقد تكون تلك القطاعات على دراية، ولكنها تؤثر الخبل، ثم هي تكشف عن خوفها من هذا المصير، فأعراض التيه والألم وضياع المبادئ وتحكم المخاوف وعدم الأمن غالبة. وفي براعة تدلل الكاتبة عن هذه المعاني من خلال الظهور المباغت لشخصية (عربي)، بما يمثله من جمال المنظر وذهول العقل، واختلاط الوعي والتيه، وسخرية المجتمع والسفهاء، هل صار السفهاء الذين يباركون تلك السخرية وهذه الأفعال اللا أخلاقية، هم المجتمع؟ هل سكت الحكماء أم غابوا غياب المجهول أو غياب الموت؟ هل مصير كل فاهم، كل مفكر، مثل مصير الحكماء المسكوت عنهم أم مثل مصير عربي أم في قافلة السفهاء؟ ويتجلى هذا في استفساراتها في حوارها الذاتي في زمكانها ص131: [خشيت من العار الذي سأسببه لمن يعرفني، عندما يقوم الصغار بمضايقتي وجذبي من ملابسي وتعريتي مثلما يفعلون بعربي متفكهين وسط ضحكات الكبار الذين لا يجدون عيبا فيما يفعله صغارهم]. ورغم ما في هذه الفقرة من سرد تقريري ظاهر، إلا أنه في ذاته صورة تخييلية في الوجدان الزمكاني تفيض بالمعاني والدلالات غير المباشرة، لكل خوف وهتك للفضيل لذلك الشر القادم الذي تراه وكأنه لا مفر منه، هل صار الناس سفهاء أعداء، هل فقدو الإنسانية، والأخلاق والدين، هل آثروا الألم واعتادوا الخطيئة، ثم السؤال الأهم، هل هي تلك الحرية المفقودة، أم هي الفضيلة أو الأمل أم هي مصر أم الوطن، أم هي كل ذلك وأحلامه؟ وغير ذلك من الدلالات لتبث من خلال المسكوت عنه كل ما تريد أن تقوله. ويؤيد ذلك سردها ص132: [أذكر جيدا هذا اليوم، في زمن ثورات الربيع العربي، والفوضى الخلاقة]. ثم يليه سرد متداخل غير منضبط يصعب فهمه مباشرة، والحاصل أنه مقصود لتبرز الكاتبة مدى التشتت الحاصل والشعور بالتوهان والتخبط والألم وتبدد الأحلام، وتشتت الذات. فإن الكاتبة تخشى على الذات، في ختام بائس يائس من الأمل والمستقبل. أ. د. محمد أحمد شحاتة حسين -عضو اتحاد كتاب مصر
مشاركة :