في رواية تعتمد بنائياً على تقنية الرسائل المستقرّة في أدبيات الكتابة العالمية، تأتي «تغريبة القبطي الأخير» (الدار) للكاتب المصري يوسف إدوارد وهيب لتدفع رسائل السرد في الرواية إلى الأمام، ليس عبر الحوارات المتبادلة بين الشخوص فحسب، وإنما عبر وجهات نظر متباينة تحملها الرسائل عينها. تتعدد الخطابات داخل الرواية، وتتعدد معها تجليات التغريبة ذاتها، بدءاً من عقل مرقص الذي يملي كاتب رسائله موريس، رسائل مفعمة بالشوق والأسى والمكابدة، مسكونة بالمحنة الشخصية والهم العام، فكأنها محمّلة بشحنات عاطفية وفكرية دالّة، لغتها مشدودة، تتماس مع الشعر في كثير من المواضع: «قال لي: أكتب يا موريس في أول السطر ما أقول، ولا تسأل كثيراً: أينما تكون حمدية؛ أحاول – كثيراً- انتزاع روحي من طاحونة الماضي، أنفي– دائماً- تنتصر، وتقودني إليها عبر دروب الرائحة»(ص7). تبدو حمدية عبداللطيف شغوفة بعقل مرقص، الذي أصيب بالعمى. خطابها إنساني لم تأكله الغربة، أو تلتهمه التحولات: «هي، هي، الرسالة ذاتها التي تصل إلى الجميع...» (ص7). ويبدو المتكلم هنا، حمدية عبداللطيف، عينة أيديولوجية- بتعبير ميخائيل باختين- بحيث نجد خطابها مركزياً، ليس لكونه عائداً إلى إحدى الشخصيات الرئيسة فحسب، وإنما لأنه يتمّم الرؤية السردية، ويكمل فراغات العلاقة الجامعة بين الشخصيات: عقل وموريس ونوال وإنصاف، ومحمود وحمدية. ويكشف خطاب حمدية تحولات الشخوص داخل الرواية، التي تصبح جزءاً من أحداث عاصفة في المجتمع ذاته، من قبيل التحول الذي يلحق بحسين (زوج حمدية عبداللطيف)، الاشتراكي الثوري الذي يصبح متطرفاً، يأمر زوجته بألا تلقي السلام على جارتهما: «وبعد كده نبه عليَّ، إما أبطل أقول صباح الخير لأم مايكل جارتنا يا إما يطلقني» (ص15). أما خطاب نوال فيبدو بعاميته المصرية، وروحه التي لم تفارق مكانها الأثير- المنيا في الصعيد- مصرّة على مجابهة القبح، تواجه المحنة بالسخرية، فضلاً عن خطاب الكراهية والتكفير الذي يتبناه أبو حميد البدرماني. وعلى متن الخطابات المختلفة للشخوص تبرز جملة من وجهات نظر مختلفة، تجمعها خيوط مشتركة. ثمة خطاب سردي يمثله الراوي الرئيس للعمل الذي يظهر في بدايات الرواية متوجهاً إلى موريس، الذي يصير هنا مروياً له ومروياً عنه في آن. ومن ثمّ يستكمل الراوي الرئيس الحكي وإنما عبر تغيير صيغة الرؤية من الحكي بضمير المخاطب؛ «وحدك يا موريس تكتب وتقرأ هذه الرسائل...»، موظفاً آلية المونولوغ الداخلي، إلى الحكي باستخدام ضمير الغائب؛ «هكذا صار موريس يكلّم نفسه كلما جلس أمام الكاهن ليعترف له...» (ص15). تتوزع «تغريبة القبطي الأخير» على شخوص مختلفين حتى تصل في نهاية الرواية إلى رحلة عبد المالك إسكندر إلى ليبيا طمعاً في الحياة، مع أنه قد يجد الموت في انتظاره، أو ربما يفرّ بلا أمل سوى في الخلاص. ولا يتشارك في التغريبة عبد المالك إسكندر المرتحل أو إنصاف المهاجرة وحدهما، وإنما ثمة تغريبة في الداخل بطلها موريس وعقل وغيرهما، فضلاً عن تغريبة جامعة تحضر فيها حمدية عبداللطيف التي ترى زوجها قد صار غريباً عنها بوعيه الماضوي الذي تلبَّسه، والجغرافيا الجديدة التي سكَنته. إنها تغريبة يتشارك فيها كل الرافضين للهيمنة الأصولية على العقل المصري. يقترب خطاب عقل كثيراً من أزمة هيمنة العقل الماضوي على الواقع المصري، ولا يتم ذلك عبر جمل تقريرية، أو نزوع أيديولوجي زاعق يصاحبه صراخ لفظي، وإنما عبر مواقف سردية دالة. يمثل عقل وعايدة وجهين متجادلين في النص، والرسائل بينهما شفيفة ونابضة بالصدق الفني، يتلوها مقطع ينبئ عن تراسل الأنواع الأدبية داخل الرواية: «كان صراخنا يكفي/ لتنهمر الموسيقى من الأواني/ لذا ملأناها بسعالنا/ وضربنا على أمعائنا المشدودة/ بين رجال الدين/ وبين ممثلين هزليين/ تلذذنا كثيراً في طاعة أوامرهم/ فصدحت الأغاني/ تندد بتجاوزاتنا/ واعتبر جباة الضرائب/ صراخنا نشاطاً تجارياً» (ص24). تعتمد الرواية أيضاً على توظيف العناوين الفرعية حال الإشارة إلى مناطق متناغمة في السرد، تشير مثلاً إلى رسائل ذات طبيعة مشتركة، كما في مقطع عنوانه: «وثائق وجدت في صندوق خشبي داخل بيت عقل متّى المصري»، ويشير إلى التخريب الذي لحق بالوعي المصري، والتمييز الطائفي الذي تكشف عنه الرسائل والخطابات المختلفة، والتي يشير بعضها إلى حوادث حقيقية مثل حادثة الكشح الطائفية في مدينة سوهاج 1999. تأتي رسالة أحلام محمود إلى عايدة، وردّ عايدة عليها دفعاً للموقف السردي الراكد إلى الأمام. فالإيقاع السردي هنا كان قد هبط، وبدا حضور أحلام واستعادة تقنية الرسائل تفعيلاً لمفهوم الشخصية الحافزة أو المحركة للسرد، التي تدفع بالموقف الدرامي إلى مدى أبعد. تعد السخرية التي تنتج المعنى والمسكونة بالمرارة من الآليات المهمة داخل الرواية التي تنحاز في مجملها إلى الهوية الحضارية المصرية، وتزداد مساحات الواقعي في النص، وتقل مساحات التخييل في المقاطع التي انشغل فيها الكاتب بالحكي عن عوالم وسط المدينة. هكذا، نرى أحياناً طرفاً من حكايات متداخلة عن شخوص حقيقيين، وبما يسهم في الإيهام بواقعية الحدث الروائي. فيلوح الناقد فاروق عبدالقادر، ومقهى «سوق الحميدية»، وجلسة الأحد من كل أسبوع، ويصبح الحكي عن الشخوص مقدمة للحكي عن عوالمهم المختلفة، مثل ما ورد عن الفنانين عبدالبديع عبدالحي وجودة خليفة، وغيرهما. كانت الرواية في حاجة حقيقية إلى اللعب على فضاء الصفحة الروائية، لتأخذ الخطابات المغايرة أشكالاً مختلفة في نوع الخط وحجمه، بدلاً من الالتباس الذي قد يحدث في بعض المواضع. وأخيراً، تحيل «تغريبة القبطي الأخير» إلى سياق شكَّلته حقب التحالف بين الفساد والرجعية، التي توارى فيها المعنى لمصلحة نقيضه، بحيث كانت سنوات السبعينات والانفتاح الاقتصادي الذي اتخذ شكلاً مختلفاً في التسعينات من القرن المنصرم عبر ما سميَّ بالخصخصة الاقتصادية، والالتحاق بكومبرادور رأس المال العالمي، وهجرة المصريين إلى الخارج، واستجلاب التديّن الشكلي، وهيمنة الوعي الماضوي، وتآكل النخبة وارتماء كثير منها في حضن التصورات الرجعية، فكانت كلّها مؤشرات على عالم يتداعى، يلتقطه يوسف وهيب من دون صراخ أيديولوجي، عبر سرد شجي وصادم في آن، منحازاً إلى الفن والمعنى والإنسان.
مشاركة :