كنت في تلك القرية الجميلة القابعة في حضن جبل الدحل بمنطقة الباحة قرية (اللغاميس). أصحو مع أذان الديك الذي يسبق في الغالب أذان الفجربقليل أي وقت السحر، ويبدو أن لها أذانين. تنهض العائلة من نومها تصلي فرضها ينطلقون كل يعرف مهمته. هناك راعي الغنم وراعيي البهم، وهناك بقية الأعمال الشاقة الري والحرث والصرام وإطعام البهائم، كلها تبدأ في وقت مبكر حتى قبيل الظهر يعود الجميع إلى المنزل لصلاة الظهر وتناول الغداء وأخذ قسط من الراحة وقت القيلولة، ثم ينتشرون مرة أخرى. يصلون عصرهم في أرضهم ومغربهم في طريقهم أو بجوار بيتهم ثم يتناولون طعام العشاء وينتظرون أذان العشاء بفارغ الصبر ليصلوه ليسلموا أمرهم لنوم غالباً ما يكون عميقاً. هكذا الحياة كانت نشاطاً وجمالاً وإنتاجاً. هذه القرية مثال ينطبق على كل قرى المملكة وأحسب ذلك في كل قرى العالم. حياة المدينة لم تكن تختلف كثيرا، اللهم إلا أن المرأة لم تكن عاملة منذ ما قبل 35 عاما كما هو المرأة بالقرية،كما استبدل الديك بالمنبه (الخراشة) وهذا تغيير جميل وتطور، إلا أنه لم يكن للسهر إلى وقت متأخر وجود إلا في حالات قليلة. وكان الإنتاج والنشاط والحرص على العمل والحرص على العائلة هي الأمور الأساسية. تسللت عادة السهر رويداً رويداً مع برامج تلفزيونية ومع شيوع لعبة البلوت الورق، ولكن كانت أيضا على نطاق محدود. ازدادت شراهة السهر وحب جمع المال وانتشرت المحلات التجارية وانتشرت المطاعم وتمغطت مدينة الرياض ودلف إليها الناس من كل حدب وصوب من أجزاء المملكة ومن نسبة كثيرة من دول العالم للعمل. بدأ دور المرأة في المنزل ينحصر لا في الطبخ ولا في غيره. زادت نسبة من يعملن من السعوديات في وظائف الدولة وبالذات الوظائف التعليمية، وهذا جيد. يعدن للبيت ينمن قيلولة طويلة ربما تفوت معها صلاة العصر. وهكذا الأزواج. المرأة غير العاملة تستيقظ صباحاً لتوقظ أطفالها للذهاب إلى المدرسة ثم تعود لتنام حتى الظهيرة لتشرف على الطبخ إن تم في البيت. هذا النمط من الحياة والممارسة قاد إلى السهر في الليل. زاد الأمر سوءاً فيما يتعلق بالسهر. انتشرت الاستراحات وزادت المطاعم والمقاهي واحلو السهر الانفرادي للرجال بعيدا عن العائلة أو ربما زين لهم أنه احلو. بقي الأطفال تحت مراقبة الأمهات التي أسقط في أيدي أغلبهن. بعضهن من ملل وترقب لغياب هذا الزوج الذي ينام في العصر وينسل بعد المغرب إلى الاستراحة ولا يعود إلا بعد منتصف الليل. وبذا لا تستطيع السيطرة على الأولاد يتمردون ويتوسل بعضهم للخروج قليلا وقد لا يعود إلا مع عودة أبيه أو قبل ذلك بقليل. البقية يتنقلون بين قنوات التلفزيون وهي إما قنوات مغريات ومغويات وإما قنوات للبكاء والعويل والشحن واختلاق القصص الغيبية. والقنوات الرياضية التي تنتهي مبارياتها متأخرة. أصبحت الرياض لا تنام إلا متأخرة وتصحو متأخرة وبالذات فيمن يمارسون العمل الحكومي. لا يعني هذا أنهم لا يداومون ولكن يعني أن نسبة قد لا تكون بالقليلة يداومون ولكنهم لا ينتجون. وجزء من عدم الإنتاجية هو ضياع الوقت في استعادة الحيوية من الذهاب للإفطار وشرب القهوة لأنه لا يتمكن في المنزل من فعل ذلك. وجزء من الوقت في تبادل الأحاديث نظرا لعدم النشاط والرغبة في إنجاز العمل ولذا لا غرابة أن نسمع كلمة راجعنا بكرة. يذهب ربما كثير من الطلبة والتلاميذ إلى مدارسهم وكذا المعلمون وأساتذة الجامعات وأيضا الكثير منهم لم يأخذ كفايته من النوم. ولذا فإن قلة النوم قد تقود المعلم والأستاذ بالجامعة إلى التوتر وعدم تقديم الدرس بالشكل المطلوب. أما الطلبة والتلاميذ فترى نسبة منهم يلف الشماخ وآخر عهده بالسماع عند دخول الأستاذ وبدئه أول جمل شرح الدرس. قد لا يأبه بإيقاظ من نام لأسباب عديدة. إن العودة إلى الوضع الطبيعي والجميل والذي كان الآباء والأجداد ينفذونه ويقومون به هو النوم مبكرا والصحو مبكرا إلا في حالات محددة لأناس محددين يقتضي الأمر سهرهم. هكذا هو الحال في كل دول العالم. وتجارب الناس كثيرة نطبقها عندما نكون في الخارج. كنت وغيري ممن درسوا في الخارج يستمتعون بالحياة المنظمة ليس فقط في الدراسة والنظام الإداري ولكن في النظام الحياتي المعيشي اليومي. عمل يمتد من التاسعة إلى الخامسة والنصف. إغلاق لكافة المحلات من الخامسة والنصف باستثناء المطاعم حتى الحادية عشرة وقليل من محلات الترفيه الخاصة حتى الثانية بعد منتصف الليل. تستمتع بالنهار في الصيف الذي يمتد إلى (10) وتكاد تكتئب من الشتاء الذي تتسلل خيوطه الساعة الخامسة ولكنه يضمك في بيتك وبين أهلك وتستمتع بالقراءة وبمشاهدة التلفزيون. ما أحوجنا للعودة للحياة السليمة. ما أحوجنا للعودة لأنفسنا وأسرنا خاصة بعدما فرقتنا العادات السلوكية غير السليمة وغير الصحية. ما أحوجنا لحماية أنفسنا وحماية أمن مدننا. أصبحت الأسرة الواحدة مشتتة داخل المنزل وخارجه. قليلا ما تلتقي بكاملها. أب يعود من الدوام ويتغدى وينام ويخرج ولا يعود إلا متأخرا إما في استراحة أو تجارة أو غيرها. وأم قد تزور صديقات أو تزورها صديقات في غيبة الزوج ويطول السمر والسهر. ولكن ما هو المردود من الإقفال الساعة التاسعة؟ لا شك أن هناك العديد من الايجابيات ولا أعتقد بوجود سلبيات. وقد تكون تلك الإيجابيات على النحو التالي: أولا: سوف يتحسن أمن المدينة بنسبة عالية جدا وستتقلص السرقات ويستطيع رجال الأمن المتابعة والمراقبة للشوارع والمحلات وستنخفض بإذن الله الجرائم بشكل كبير، خاصة وأن جرائم السرقة والسطو زادت وتيرتها لأسباب متنوعة ومتعددة. ثانيا: ستصبح أعداد السيارات التي تجوب الشوارع محدودة بحيث يخف الضغط على الشوارع والطرقات ولذا ستبعد مسافات الصيانة للشوارع زمنيا، وهذا يعني توفيراً للجهد وللمال. ثالثاً: ستضمن استمرار العمر الزمني للسيارات وتخف مشاويرها وتقل نفقات الصيانة والبترول وغيار الإطارات، وهذا يوفر مالا للأسرة. رابعاً: سيزداد الدفء وتقوى الروابط الأسرية بين أفرادها بحكم تواجد الأب والأم وكافة الأسرة وقتا أطول مع بعض يتجاذبون الحديث ويتناقشون ويتفاهمون على تغيير نمط الحياة وتصبح الحياة الأسرية ذات معنى وأهمية أكبر. خامساً: سيكون هناك إنتاجية عالية للموظفين وسيكون انعكاسه على الوطن كبيراً من حيث سرعة الأداء وأداء الوجبات تجاه طالبيها، كما سيزيد التركيز والتحصيل العلمي للطلبة. سادساً: سينعكس ذلك على السلوك وبالذات في فترات الصباح حيث الحيوية والنشاط كما سيكون له مردود على التعامل بين الأفراد في العمل والمدارس والجامعات. ستنخفض نسبة الحوادث بشكل كبير وبالتالي تنخفض الإصابات والوفيات السنوية نظراً لانحسار تواجد السيارات في الشوارع. سيتغير نمط السلوك الشرائي للأغذية وسيركز الناس على الشراء الأسبوعي لاحتياجاتهم. ولكن كيف لهذا التوقيت أن يصمد. يحتاج الأمر في اعتقادي إلى ما يلي: أولاً: الإصرار على التطبيق ومتابعته والالتزام به وعدم التهاون وأن يكون هناك غرامات على من يخالف. ثانياً: أن تدرس الاحتياجات للبقالات في كل حي ويقرر الأنسب منها للاستمرار مدة أطول. ثالثاً: أن يمدد لبعض الأسواق الكبيرة الشمولية التي تبيع المواد التموينية ساعتان أما يوم الجمعة أو يوم السبت أو كليهما. رابعاً: عدم إغلاق المحلات التجارية في وقت صلاة العشاء وأن يفكر علماؤنا في هذا الأمر بذهن مفتوح ينظر فيه إلى الضرورات والمصلحة العامة التي تيسر على الناس ولا تعسر والإسلام دين يسر خاصة وأن فترة صلاة العشاء طويلة. خامساً: أن ينشأ نظام مواصلات يمكن للأسرة استخدامه بيسر وسهولة. سابعاً: إقفال الاستراحات وأن تنشأ صالات داخل الأحياء تِؤجر في المناسبات إضافة إلى ما هو موجود في الفنادق وغيرها. ثامناً: إقفال المقاهي التي تقدم الشيشة نهائياً لأنها في اعتقادي تتسبب في سرقة الوقت وهي لا تحتلف عمن يمارس تخزين القات فكلاهما عدو الوقت والأسرة. تاسعا: أن يبدأ العمل من التاسعة إلى الخامسة مع ساعة راحة وقت الظهيرة. وهذا ما كان يتم لدى الآباء والأجداد وهو ما هو معمول به في كل دول العالم. ليست حجة أن الطقس حار. الجميع في مكاتبهم ومدارسهم وجامعاتهم. يمكن للعاملين في الإنشاءات في الخارج البدء الساعة السابعة. عاشرا: فتح دور للسينما في المجمعات وقصرها في البداية على إجازة نهاية الأسبوع. هكذا أتخيل ما ستكون عليه مدينة الرياض من هدوء. أتذكر عند تطبيقها لإغفاءة التاسعة أذان الديك والصحو باكراً. أتذكر معها الشباب والنشاط. أتذكر معها الانتاج وسيكون هذا حال من هو مثلي ممن بلغ سن الحكمة وزاد عليها قليلاً.
مشاركة :