إعداد: محمد فتحي تزخر بقاع الأرض بالتراث الإنساني من فنون وعلوم، نُقشت وكتبت ورسمت على الجدران، أو في بطون الكهوف، ومنها ما هو غارق في قاع البحار والمحيطات، حفظته الطبيعة بعيداً عن أيادي البشر العابثة واللصوص، ليكتشفه العلماء أخيراً ويكشفون كنوزاً متنوعة وتحفاً فنية ووسائل علمية ومقتنيات فاخرة، وغيرها من عناصر الإرث البشري التي غرقت خلال الرحلات والأسفار عبر التاريخ.وتعكس الكنوز الغارقة أحياناً أندر وأغرب ما ابتكرته الحضارات الإنسانية، لتكشف أكثر الألغاز غموضاً بشأن تاريخ الإنسان القديم، الذي أبدع واخترع وصمم ووصل إلى حدود الكون، وفي التقرير التالي نستعرض أبرز ما كشفت عنه تلك الكنوز. }} بعد عدة قرون من الغرق في أعماق السواحل اليونانية، اكتشف «أنتيكيثيرا»، وهى آلة ميكانيكية إغريقية تم ابتكارها خصوصاً للحسابات الفلكية، وهي أقدم ماكينة وساعة معقدة في التاريخ، كما أطلق عليها العديد من العلماء الحاسوب التماثلي لشدة تعقيدها.وتعود قصة اكتشاف الآلة إلى عام 1900 حين انطلق قارب يوناني لصيد الإسفنج قبالة الساحل الشمالي لجزيرة أنتيكيثيرا اليونانية النائية، وكانت هناك عاصفة قوية عطّلت عملية الصيد لأيام، وبعدها نزل غواص يدعى إلياس ستادياتوس، إلى الأعماق، واكتشف بالصدفة حطام سفينة قديمة غارقة في قاع البحر، وذهل مما رأى، حيث قال إنه شاهد مجموعة من الجثث العارية التي تبين بعد انتشالها أنها تماثيل يونانية وإغريقية من الفضة. كانت الصناديق تحتوي أيضاً مجوهرات وحلياً وأوانيَ ثمينة، كما كان هناك صندوق خشبي بحجم الكتاب لم يعبأ به الغواص، لكنه كان يحتوي أندر وأكثر الاكتشافات العلمية القديمة تعقيداً، وتبين لدى فتحه أنه يحتوي على ترتيب معقد من مسننات برونزية، وأقراص مدرَّجة، أحالها التآكل الشديد إلى كتل مشوهة من معدن يغلب عليه اللون الأخضر، بسبب الترسبات البحرية. أما الصندوق الخشبي فتحطم، وبقيت المسننات والأقراص البرونزية على حالها إلى الآن معروضة داخل المتحف الوطني اليوناني. ويعتقد أن الآلة الفلكية تعد ساعة متطورة للغاية، يعود اختراعها إلى 100 أو 150 عاماً قبل الميلاد، ورجّحت المصادر الأثرية أنها تشير إلى مواقع النجوم والكواكب وأوقات حدوث الكسوف والخسوف. }} يجوب العالم العديد من صائدي الكنوز الحالمين بالقصص الأسطورية، وعلى الرغم من أحلامهم الواسعة، فإنها تتحول أحياناً إلى حقيقة لتبتسم الحياة لبعض منهم. وكان أحدهم هو الغواص الأمريكي جاي ميسكوفيتش، الذي اشترى عام 2010 خريطة بمبلغ 500 دولار فقط، يعتقد أنها تدل على كنز يقبع في قاع المحيط الأطلنطي قبالة سواحل ولاية فلوريدا الأمريكية، وبحث وراءها ليحدث ما لم يتوقعه أحد، حين عثر على ثروة طائلة مؤلفة من عشرات الآلاف من أحجار الزمرد، التي تقدر قيمتها بعدة ملايين من الدولارات في قاع خليج المكسيك بالمحيط الأطلنطي. ويُعتقد أنها من حطام السفينة الإسبانية «أتوشا» التي غرقت بالقرب من المنطقة في القرن السادس عشر. ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهيه نفس ميسكوفيتش، إذ جاءت بعض الإجراءات القانونية على غير هواه، حين أثار خبر إيجاده الكنز الثمين عاصفة من الانتقادات والادعاءات بأن ذلك الكنز يعد ملكية قومية وأثرية، ما فتح تحقيقاً فيدرالياً موسعاً في الحكومة الأمريكية، ومعتركاً قانونياً بين كبار المحامين، وأصرت السلطات بعد أحقية ملكية ميسكوفيتش للكنز بحق الدولة في 30 كيلوغراماً منه، ولكن فسر قانونيون تلك الخطوة بأنها إجراءات تعسفية فقط لإرضاء بعض الأطراف، كما أنها جاءت على حساب ميسكوفيتش، الذي هدد يوماً ما بالانتحار بسبب ملاحقات قانونية كان آخرها انتزاع ملكية بيته الجديد. }} ندرج أغلبية ما يكتشفه الإنسان من أعماق البحار تحت قائمة الكنوز بأنواعها، سواء المجوهرات أو الأغراض الثمينة؛ كونها ذات قيمة علمية وأثرية كبيرة، ولكن برز اكتشاف من نوع خاص جداً، تمثّل في بقايا حطام أشهر سفينة قراصنة في التاريخ تدعى «بلاك بيرد»، أو اللحية السوداء، التي غرقت عام 1718، وتعد إرثاً تاريخياً مهماً لتلك البقعة التي عانت ويلات هجمات مالكها القرصان الشهير بلاك بيرد. اسم القرصان الحقيقي كان إدوارد تيش، الذي يعد واحداً من أشهر قراصنة التاريخ، وأصبح علماً من أعلام الفلكلور الأمريكي، وهو إنجليزي الأصل ولد في مدينة بريستول في بريطانيا، وقتل في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1718، قرب جزيرة أوكراكوك التابعة لولاية كارولاينا الشمالية في الولايات المتحدة. بدأ تيش نشاطه في البداية بتعقّب القراصنة، إلا أنه تحوّل إلى أشهر قرصان في التاريخ وذاع صيته أواخر 1716، وفي السنة التالية سطا على سفينة تجارية فرنسية، وأعاد تسميتها باسم «انتقام الملكة آن» وحولها إلى سفينة حربية بأربعين مدفعاً، واكتسب سمعته السيئة من سطوه واعتدائه على مناطق إسبانيا الأمريكية، والهند الغربية، وسواحل كارولينا وفرجينيا. ونتيجة للأساطير التي حيكت حوله بسبب أسلوبه العنيف والوحشي في القضاء على منافسيه، قرر حاكم فيرجينيا عام 1718 إرسال سفينتين حربيتين للقضاء عليه، وهو ما جرى بالفعل، حين أغرقت سفينته بعد معركة حامية بالقرب من سواحل كارولينا الجنوبية. واكتشفت بقايا سفينة «بلاك بيرد» عام 1966 ولكن منذ ذلك الحين لم يكن بمقدور الوسائل المستخدمة انتشالها لصعوبة المنطقة وبسبب ضخامة مكوناتها، ولكن في أكتوبر عام 2013 استطاع فريق علمي من دائرة الثقافة والعلوم الوطنية بولاية كارولينا الشمالية، انتشال 20 مدفعاً من حطام السفينة يصل وزن الواحد منها إلى نحو الطن تقريباً، ونالت عمليات الانتشال العديد من الإشادات العالمية؛ كونها واحدة من التراث الأمريكي والشعبي، الذي نسجت حولها العديد من قصص الخيال والمغامرات على مدار العقود الماضية، وألهمت أجيالاً من الحالمين في الولايات المتحدة، وقرّر الفريق استكمال المهمة بانتشال المدافع الأخرى خلال العام الجاري، ووضعها داخل متحف الولاية بعد ترميمها. }} في عام 1982، كان الغطاس ميمت كاكير، على موعد مع الحظ، حين كان يبحث عن إسفنج البحر على ساحل بلدة Uluburun التركية في البحر المتوسط، حيث عثر بالصدفة على أنقاض سفينة غارقة بطول 50 قدماً. وظل الحطام في البحر مدة طويلة لدرجة أن هيكلها المصنوع من خشب الأرز اختفى، ولكن كاكير رصد العديد من الجرار الخزفية، فضلاً عن مئات السبائك والقطع من الزجاج والنحاس والقصدير. وأمضى علماء آثار 10 سنوات يدرسون حطام السفينة، وعلى مدار أكثر من 20 ألف غطسة، تمكنوا من استعادة الكنز الدفين، الذي يعود للعصر البرونزي، والذي تضمن تحفاً تتراوح بين العاج وأسنان فرس النهر، والمجوهرات، وحتى خنفسة سوداء نقشت عليها كتابات مصرية قديمة. وبعد العديد من الدراسات استطاع العلماء تحديد عمر السفينة من خلال قطعة من الحطب، وأكدوا أن عمرها يصل إلى 3300 سنة، وتعتبر أحد أقدم السفن الغارقة المكتشفة، لكن المؤرخين غير متأكدين من أصلها، فحمولتها من النحاس من قبرص، ولكن وجد علماء الآثار أيضاً تحفاً ميسينية، وآشورية، وكنعانية، ومصرية، ما قاد الكثيرين للاعتقاد أن السفينة كانت تجارية تحمل البضائع من العديد من بلدان حوض البحر المتوسط. }} كانت السفينة الحربية الملكية السويدية «فاسا» من أشهر المكتشفات التي كانت على حالها تقريباً عند انتشالها عام 1961 بعد 333 عاماً من غرقها، واكتشفت على عمق 30 متراً في ميناء ستكهولم. وكانت المصادفة وحدها هي التي قادت طاقم غواصة سويدية أثناء رحلة تفتيش روتينية عام 2002 إلى العثور على حطام سفينة غارقة من القرن الثامن عشر، كانت على حالتها الأصلية تقريباً، وعليها مئات من الجماجم البشرية، ويبدو أنها تعرضت لكارثة ما، ولم يتم انتشال الحطام حتى الآن. }} حين عثر على حطام السفينة الملكية الهولندية «بالمود» التي غرقت عام 1642 في بحر الشمال، كانت تحمل الكثير من البضائع الفاخرة وأدوات التجميل والزينة، وبالطبع مجموعة من الأزياء الراقية التي كانت ترتديها النبيلات من أكبر العائلات الأوروبية في ذلك الوقت. وكان فستان النبيلة الهولندية «جين كير» دوقة روكسبورغ من أهم الاكتشافات البحرية التي عثر عليها في تاريخ هولندا، على سواحل جزيرة تكسيل، حيث أبرز ملامح الموضة الملكية في ذلك العصر المفصلي من تاريخ الموضة في أوروبا، كاشفاً عن حركة التبادل الثقافي والفني التي تجلّت في تصميم الملابس الفاخرة. كما وجد مع الفستان المصنوع من الحرير الطبيعي وخيوط الذهب، كامل ملحقاته من جوارب وإكسسوارات. وفي 2006 أثبتت إحدى الباحثات ملكية الفستان لجين كير، بسبب اكتشافها بعض المراسلات الأرشيفية التي توضح ضياع السفن في طريقها من بريطانيا إلى هولندا، وأن مالكي البضائع كانوا في انتظارها، ولكن السفن غرقت بكل ما تحمل من أمتعة، وكان من بين هؤلاء الدوقة جين كير، بحسب تلك المراسلات. وبإجراء بعض الدراسات تبين أن الفستان لجين كير، تحديداً، بسبب توافقه مع مقاسها الذي كان كبيراً نسبياً بين أقرانها تلك الفترة.
مشاركة :