الإرهاب يقسم الطبقة السياسية في فرنسا عشية الانتخابات

  • 4/22/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

مقابل مخزني «ماركس أند سبنسر» و«إيف روشيه» الواقعين على الجهة اليمنى من جادة الشانزليزيه صعودا نحو قصر النصر، وغير بعيد عن قصر الإليزيه القائم على بعد مئات قليلة من الأمتار، ضرب الإرهاب مجددا العاصمة الفرنسية وعاد ليخيم شبحه على النفوس وليشعل مجددا الجدل السياسي بين اليمين واليسار قبل 48 ساعة من جولة الانتخابات الرئاسية الأولى. العملية الإرهابية التي وقعت في تمام الساعة التاسعة من ليل أول من أمس دامت أقل من دقيقة: سيارة عادية توقفت فجأة إلى جانب حافلة للشرطة ونزل منها شاب مسلح برشاش كلاشنيكوف... بادر من غير مقدمات إلى فتح النار على رجال الشرطة الجالسين في مقاعدهم فقتل على الفور أحدهم وجرح اثنين وسعى لأن يلوذ بالفرار سيرا على الأقدام. إلا أن رجال الأمن الموجودين بكثافة في هذه الجادة التي توصف بأنها «الأجمل في العالم» والتي تستضيف المناسبات الوطنية الكبرى، فتحوا النار عليه فورا فأردوه قتيلا فوقع تماما أمام مخزن إيف روشيه. لكن قتله لم يضع حدا للعملية إذ إن رجال الأمن ظنوا أن له شريكا لاذ بالفرار. و«الشرق الأوسط» التي لا تبعد مكاتبها سوى رمية حجر عن مكان الحادث، تابعت لحظة بلحظة المشهد المفجع. الآلاف من الناس أصابهم الهلع من سماعهم صوت الرصاص فبدأوا بالركض والهرولة في كل اتجاه. أمهات يحملن أطفالهن. شيوخ وشباب، صغار وكبار، هذا يصرخ وذاك يبكي، يسعون للالتجاء إلى مقهى أو مخزن أو الفرار إلى الشوارع الجانبية والالتصاق بمداخل الأبنية. وعندما تسأل عما حصل، كان من الصعب أن تحصل على بداية جواب. الكل خائف والكل يتذكر ما شهدته باريس من أعمال إرهابية، أخطرهما المذبحتان الإرهابيتان اللتان ضربتاها في بداية عام 2015، «صحيفة شارلي إيبدو الساخرة»، وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من العام نفسه «مقتلة مسرح الباتاكلان ومطاعم الدائرة الـ11 من العاصمة». سريعا جدا، تحولت الشانزليزيه التي يعرفها العرب جيدا لأنها عادة ما تكون مقصدهم الأول في باريس، إلى ما يشبه ساحة حرب: سيارات شرطة ورجال أمن مدججون بالسلاح، سيارات إسعاف يصم زعيقها الآذان، طوافة هليكوبتر تابعة لشرطة العاصمة تحلق فوق المنطقة، دراجون مسرعون ومواطنون عاديون لا يدركون ما يحصل أمام أعينهم... والأسوأ من ذلك ألا أحد كان يعرف ما إذا كان الجاني الذي تعرفت الشرطة هويته سريعا «اسمه كريم الشارفي وعمره 39 سنة» بفضل أوراق السيارة التي حملته إلى المكان، قد عمل بمفرده، أم أن له شركاء فقام رجال الأمن وهم يشهرون سلاحهم بعمليات تفتيش وملاحقة في الحي الذي قطعت الطرقات المفضية إليه، كما أغلقت محطات المترو القريبة؛ ما زاد من كثافة الناس. ولم تتأخر الإشاعات التي تناقلتها الألسن وبثتها الوسائل الإعلامية عن زيادة الهلع بين من يؤكد وجود عملية احتجاز رهائن وآخر فرار رجل ثان إلى مرآب تحت الأرض تحت جادة الشانزليزيه. وبسبب هذا الخوف، فقد أمرت الشرطة بإبقاء رواد المقاهي والمطاعم والفنادق في الداخل لساعات طويلة، الأمر الذي زاد من التوتر. وعندما كان رئيس الوزراء ووزير الداخلية ينبهان، في الأسابيع الأخيرة إلى أن فرنسا ما زالت مهددة، لا بل إن التهديد في أعلى درجاته، كانت أكثرية الناس تزم شفاهها إبداء لعدم اكتراثها. لكن ما حصل في مدينة مرسيليا قبل ثلاثة أيام عندما قبضت الشرطة على رجلين كانا يعدان لعملية إرهابية واسعة وقبلها مهاجمة شرطية في مطار أورلي أو مهاجمة رجال أمن في متحف اللوفر، كان بمثابة جرس إنذار جدي. وما زاد من مخاوف المسؤولين الأمنيين والسياسيين ثلاثة: الأول، الهزائم التي تلحق بتنظيم داعش في العراق وسوريا وصعوبة الاستمرار في إيصال المقاتلين والمتطرفين إلى هذين البلدين. ويرجح متابعون للشأن الإرهابي، أن هذا المعطى الجديد يدفع بـ«داعش» إلى تفضيل قيام «جنود الخلافة» بعمليات إرهابية في بلدان إقامتهم. والثاني، سعي المتشددين الفرنسيين أو المقيمين على الأراضي الفرنسية العودة إلى فرنسا بسبب تطور الأوضاع الميدانية. وهؤلاء، في رأي المسؤولين يشكلون تهديدا مباشرا بسبب الخبرات القتالية التي كسبوها وتقنيات التفخيخ والتفجير التي تدربوا عليها. وأخيرا، فإن اقتراب موعد الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية يدفع أصحاب المشروعات الإرهابية إلى الانتقال من التخطيط إلى التنفيذ بسبب الصدى الإعلامي الكبير الذي يمكن أن تلقاه عملياتهم... الأمر الذي هو حاصل حقا. منذ الصباح الباكر، كان عمال بلدية باريس في الشانزليزيه لإزالة أثار الدماء وتنظيف الجادة التي عمدت الشرطة إلى فتحها مجددا أمام حركة السير وأمام الراجلين. وسريعا جدا، عاد هذا الشارع المعروف عالميا بأنه شعار باريس لتدب فيه الحركة العادية. ولولا وجود عشرات كاميرات التلفزة والصحافيين من غالبية أصقاع الأرض وتجمهر الباريسيين لمشاهدة المكان لما دار في خلد أحد أن عملية إرهابية ضربت هذه الجادة الشهيرة التي كانت من بين المناطق المشمولة بأفضل حماية أمنية. وككل مرة، استضاف قصر الإليزيه اجتماعا أمنيا دام حتى وقت متأخر من الليل، ثم اجتماعا صباحيا لمجلس الدفاع للنظر في الحادث وطمأنة المواطنين إلى أن العملية الانتخابية ستجري بشكل طبيعي وأن الحكومة والأجهزة الأمنية ستحرص على توفير السلامة لـ67 مكتب اقتراع بفضل تعبئة خمسين ألف رجل أمن وشرطة. وأطل رئيس الجمهورية في ساعة متأخرة ليدعو إلى الهدوء وإلى الاتحاد ورص الصفوف والدفاع عن الديمقراطية المستهدفة من قبل الإرهابيين. بانتظار أن تنجلي مناطق الظل في عملية ليل أول من أمس، فإن الثابت أن «إرهابيي» اليوم ليسوا سوى مجرمي الأمس من القياس الصغير. ذلك أن كريم الشارفي لم يكن نكرة لدى الأجهزة الأمنية أو القضاء. فهذا الرجل المولود في فرنسا في ضاحية باريسية، الذي كان يعيش مع والدته في منزل يقع في مدينة شيل «ضاحية باريس الشمالية» له سجل إجرامي طويل، إذ إنه حكم عليه بالسجن في عام 2005 بسبب إطلاقه النار في مناسبتين على ثلاثة من رجال الأمن، ولم يخرج منه إلا بداية عام 2015 وفق معلومات حصلت عليها صحيفة «لوموند». وبداية هذا العام، دخل في مرمى الأجهزة الأمنية التي أوقفته واستجوبته بسبب تهديدات أطلقها بقتل رجال أمن وبسبب ميوله الإسلامية الراديكالية الجديدة بحسب ما أشار إليه متحدث باسم وزارة الداخلية. ونتيجة لذلك، فتح تحقيق قضائي بحقه أنيط إلى قسم مكافحة الإرهاب. لكن كريم الشارفي، وبعكس المعلومات الأولى التي تم تبادلها، لم يكن اسمه موجودا على لائحة الأشخاص الخطرين. ومباشرة بعد تعرف هويته، قامت القوى الأمنية بمداهمة منزله وألقت القبض على ثلاثة أشخاص من محيطه المباشر. ووفق ما قاله مدعي عام الشؤون الإرهابية فرنسوا مولينس، فإن التحقيق يريد أن يعرف ما إذا كان الشارفي «ذئبا منفردا»، أم أنه تلقى مساعدات لوجيستية أو غير لوجيستية من أشخاص آخرين، خصوصا أن تنظيم داعش سارع لتبني العملية ناسبا إياها إلى «أبو يوسف البلجيكي». والحال أن الشارفي فرنسي المولد والهوية وليس معروفا أن له كنية «داعشية». وترجح تقارير صحافية أن تكون الأمور قد اختلطت على «داعش» بين الشارفي من جهة ورجل آخر سلم نفسه إلى السلطات البلجيكية في مدينة أنفرس «شمال بلجيكا»، الذي تصفه الشرطة هناك بأنه «بالغ الخطورة» وقد عثرت في منزله على أسلحة وعلى بطاقة سفر بالقطار إلى باريس بتاريخ 20 الحالي أي في اليوم نفسه الذي حصلت فيه عملية الشانزليزيه. واللافت بالنسبة للشارفي أنه رغم سجله العدلي الحافل، فقد بقي طليقا ونجح في أن ينفذ عمليته؛ ما يطرح أسئلة جدية حول نجاعة القضاء والتنسيق بينه وبين الأجهزة الأمنية. هل ثمة علاقة حقيقية بين الشارفي و«داعش»؟ السؤال يشغل الأجهزة الأمنية التي تسعى من خلال فحص الهاتف والحاسوب والمواد التي توفرت لها، إن من خلال عملية الدهم أو تلك التي عثرت عليها في سيارته، فضلا عن التعرف بدقة على علاقاته بالأشخاص الذين كان على اتصال بهم، لجلاء هذه النقطة التي قد تتطلب عدة أيام. وفي هذا السياق، فإن العثور في سيارة الشارفي، إلى جانب بندقية حربية وسكينين وأقنعة، على رسالة مكتوبة بخط اليد تدافع عن «داعش» وتروج لمقولاتها، إضافة إلى تبني التنظيم الإرهابي المستعجل للعملية، لا يعني وفق المحققين، أن هناك «علاقة مباشرة» بين الشارفي و«داعش» أو أنه كان له «مشغل» ينفذ تعليماته. إزاء هذه العلمية الجديدة، جاءت ردة فعل السلطة التنفيذية ممثلة برئيس الجمهورية والحكومة كسابقاتها. وقد سارع هولند إلى التأكيد أن الحكومة ستعمل ما بوسعها للحفاظ على أمن المواطنين وأمن العملية الانتخابية. أما رئيس الحكومة برنار كازنوف فقد رد على مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان ومرشح حزب «الجمهوريون» فرنسوا فيون ليؤكد أن «لا شيء يجب أن يحول دون حصول الاستحقاق الديمقراطي (الانتخابات الرئاسية)» وهاجم المرشحين المذكورين متهما إياهما بـ«استغلال» العملية الإرهابية واستثمارها سياسيا. وبخصوص لوبان، قال كازنوف إنها «تستغل الخوف والتأثر لدى الفرنسيين لغايات محض انتخابية». وكان المرشحان المذكوران اللذان عمدا إلى إلغاء نشاطاتهما الدعائية في اليوم الأخير من الحملة الانتخابية قد دعوا إلى سياسة متشددة في الموضوع الأمني الذي استخدماه رافعة سياسية. ودعت لوبان الرئيس هولند إلى «انتفاضة» أمنية وإلى الرد على الإرهاب بـ«جواب أمني شامل». ومما اقترحته عمليا طرد كل الأشخاص الأجانب الموجودة أسماؤهم على اللوائح الأمنية وفرض الرقابة الشاملة على الحدود ونزع الهوية الفرنسية عن كل مزدوج هوية على علاقة بمشروعات إرهابية... أما فيون فقد ارتأى فرض «حجز إداري» على كل من ورد اسمه على اللوائح المذكورة. وواضح أن كثير مما هو مقترح إما هو مخالف للنصوص الدستورية وإما أن الحكومة تعمل به مثل الرقابة على الحدود.

مشاركة :