النسخة: الورقية - دولي إنها «الفقاعة» كما يحلو للرئيس الأميركي باراك أوباما أن يدعوها، بينما كان الرئيس السابق بيل كلينتون دعاها «جوهرة التاج في نظام السجون الفيديرالي»، وكان الرئيس هاري ترومان سبّاقاً بتسميتها «السجن الأبيض الرائع». هذه المصطلحات الأميركية هي الرديف لما كان يطلق عليه البريطانيون في القرن التاسع عشر «العزلة الباهرة»، وهي العبارة المصطلحية التي استخدمت آنذاك في توصيف سياسة بريطانيا العظمى الخارجية. أما الأميركيون على الضفة الثانية من الأطلسي، فاستعاروا هذا التعبير ليصفوا العزلة التي يعيشها الرؤساء الأميركيون في مكتبهم البيضاوي خلف أسوار البيت الأبيض العتيد لدى وصولهم إلى سدة الحكم، وأطلقوا عليها تعابير تنسجم مع السياق السياسي لبلاد العم سام. ففي قصر عارم يحيط به حرس مدجّجون من كل ركن من أركانه، 132 غرفة، و32 حمّاماً، وقاعة عرض سينمائي ضخمة، وملاعب رياضية للتنس وأخرى للبولينغ، وقاعة الجناح الشرقي الشهيرة ببذخها والتي تستضيف عادة ولائم الدولة والمناسبات الرسمية ذات التمثيل الرئاسي... وهذا كلّه معزّز بجيش من مديري الشؤون المنزلية الذين تتوزع مهماتهم بين مسؤولين عن التسوّق للمواد المنزلية التي يحتاجها القصر، وعشرات من أمهر الطهاة والنوادل، وفريق خاص بإعداد الملابس ومسح الأحذية، وفريق رعاية أبناء ساكن القصر والاهتمام باصطحابهم إلى المدارس، والسكرتاريا الخاصة التي تحضّر لبرنامج الهواتف اليومية وتجيب على المكالمات، ومزارعون يقلّمون العُشب في الحدائق، ومختصو تجميل يقلّمون الأظافر ويهتمون بكل شاردة وواردة تتعلق بالماكياج وتصفيف الشعر والمظهر الخارجي للأسرة الأولى المقيمة في القصر... في هذا القصر القابع في 1600 من جادة بنسلفانيا العريقة في العاصمة الأميركية واشنطن، يسكن الرئيس الأميركي المنتخب خلال فترة رئاسته ومعه أفراد عائلته الصغيرة. هكذا وصف الإعلامي الشهير كينيث وولش، الصحافي الذي ربطته معرفة قريبة ومميزة بمعظم الرؤساء الأميركيين منذ عهد جورج دبليو بوش، ما دعاه «السجن» الذي يقبع فيه الرؤساء الأميركيون خلال فترة رئاستهم. وبسبب الثقة العالية التي تمتّع بها وولش لدى العاملين في البيت الأبيض وبطانة الرئيس، والرؤساء الذين التقى بهم شخصياً، أتيح له الاطلاع على معلومات دقيقة، وسريّة في بعض الأحوال، تتعلق برسائل الرئيس الخاصة التي يتلقاها، ومعلومات غير معلنة عن استطلاعات الرأي وتسجيلات المكالمات الهاتفية، الى جانب المقابلات والحوارات الصريحة والمباشرة التي أجراها خلف أسوار البيت الأبيض مع المقرّبين وصنّاع القرار حول الرئيس. وبسبب هذه الثقة العالية، تمكّن وولش من كتابة 265 صفحة غنية بمشاهد حياة الرؤساء الأميركيين المتعاقبين بنبضها الداخلي، وكذلك بعزلتها عن الوسط المحيط، وأطلق على كتابه اسم «سجناء البيت الأبيض». وفي أحد حواراته مع جيه كارني، السكرتير الإعلامي في البيت الأبيض، نقل عنه قوله: «الحقيقة أن الرئيس يعيش ضمن فقاعة فاخرة... وهذه الفقاعة حالة حقيقية وكثيفة يصعب اختراقها ومن الصعب أن تجد طريقك خارجاً منها». لكن وولش في كتابه استطاع اختراق هذه الفقاعة، والوصول إلى تفاصيل الأسطورة التي تحيط بمشهد وتفاصيل الرئاسة والحياة اليومية للرئيس الأميركي. يتحدث وولش عن كيفية اتخاذ القرار في قمة هرم الهيئة التنفيذية في المكتب البيضاوي من البيت الأبيض، بينما الرئيس يتلقى المعلومات من المحيطين به حصراً في تقارير دورية واستطلاعات رأي يرفعونها إليه، وكذا من وسائل الإعلام ومن أعضاء مجلس النواب الذين هم الأكثر التصاقاً بالشارع الأميركي. ويشير إلى حجم المصاعب والتحديات التي تواجه الرئيس في اتخاذ قراره وهو قابع في قلب الفقاعة التي تعزله عن الاتصال المباشر مع تفاصيل الحياة اليومية العادية ومع الشارع الأميركي العريض. وهذا ينسحب على القرارات المتّخذة في السياسة الخارجية، والتي تخضع أيضاً للتقارير المتأنية من وكالة الاستخبارات الأميركية، ولآراء الديبلوماسيين الأميركيين المنتشرين في العالم وتصوراتهم للعلاقة مع العالم، وكذا الدراسات التي تقدّمها مراكز البحوث الكبرى في واشنطن. ومعروف أن «الحارس» الأول، صاحب السلطة المطلقة في حماية هذه الفقاعة من أي اختراق في عهد باراك أوباما، وفي الاتجاهين، هو المستشارة الخاصة لأوباما والمقرّبة جداً منه السيدة فاليري جاريت. فهي الناصح الأول للرئيس وحامي هذه العزلة السياسية من أي تشويش يمكن أن «يغيّر المسار السياسي الذي كانت رسمته بعناية للرئيس»، وفق تصوّرها. واعترف أوباما لوولش في أحد الحوارات الصحافية بأنه «ارتكب خطأ كبيراً في فترة رئاسته الأولى بسبب انغلاقه في البيت الأبيض في شكل مبالغ فيه». وفي محاولاته الخروج من هذه الشرنقة التي أحيط بها، يواجه أوباما امتعاضاً كبيراً من الحرس الرئاسي الخاص، لا سيما بسبب إصراره على استعمال البلاك بيري لإرسال الرسائل النصية والايميل في التواصل مع أصدقائه. ولمناسبة محاولات أوباما الخروج من ركون الفقاعة إلى صخب الحدث في الفترة الأخيرة من حكمه، أتساءل بصفتي أميركية من أصل سوري: ما طبيعة المعلومات التي قدّمت الى الرئيس الأميركي عن إحداثيات الأزمة في سورية، ومن يدير رحاها هناك؟ وما هي مصادره في استقصاء الحقائق عن مآلات الثورة السورية في مواجهة استبداد النظام؟ وهل الفقاعة التي يتقلّب أوباما في فراغها حجبت إمكانية اتخاذ أي قرار متوازن يتعلّق بآلام الإنسان السوري، قبل أن يتعلّق بجروح الأرض السوريّة؟ وهل محاولات أوباما الخروج من هذه الفقاعة والاقتراب من الحدث في الفترة الأخيرة من حكمه، ستصبّ في نصيب نصرة القضية السورية العادلة في التحرّر والحرية، ما يسهّل التحرّك من أجل دعم هذه المهمّة التي تُرك الشعب السوري لمواجهتها وحيداً في دائرة الطغاة؟ بالطبع كتاب وولش لا يجيب عن هذه الأسئلة، ولا السيدة الحارسة جاريت تملك إجابة، ولا «أصدقاء شيكاغو» المقرّبون الذين اصطحبهم معه إلى الدائرة المحيطة بمكتبه البيضاوي حين وصل إلى الحكم. لكن الخوف كل الخوف أن يكون الرئيس نفسه لا يملك الإجابة عن هذه الأسئلة بعد خروجه الميمون من طوق الفقاعة في السنتين الأخيرتين من عهده، حيث تطلق عليه في هذه المرحلة تسمية «البطة العرجاء».
مشاركة :