الأبطال الجدد لا يسعون إلى المجدكان الروائي الروسي ليف تولستوي (1828 1910-) دائمًا يبحث عن كاتب من مميزاته الرئيسية “البحث العنيد عن الحقيقة” حتى أنه كان يعيب على الروائيين الذين يُغرقون الشخصيات في السوداوية أو “عسر الهضم” بتعبيره، ومن ثمّ جاءت كتاباته بحثًا عن الداخل وتجسيدًا لما يؤمن به. وأهمّ سمة في كتاباته أنّها كانت نافذة على مجريات الأمور في روسيا القيصرية، سواء كانت أمورا اجتماعيّة أو حربية في صراع القادة الروس في القوقاز. العرب ممدوح فرّاج النّابي [نُشر في 2017/04/22، العدد: 10610، ص(17)]صراعات ومهادنات وخيانات بعد أن كتبَ تولستوي رواية «أنّا كارينينا» قال “كتبتُ فيها كلّ شيء. ولا أدري ما الذي أكتبُه بعد ذلك!”، وبينما هو على فراش المرض كتب رواية “الحاج مراد”، وهو في الرَّابِعة والسبعين من عمره. الغريب أنَّه عندما سُئل قبل وفاته عن آثاره الأدبية غير المطبوعة التي تُعدُّ ذات قيمة، أجاب “الحاج مراد والجثة الحيّة، لا غير”. طُبعت الرواية بعد وفاته واعتبرها الكثيرون إحدى أجمل روائع تولستوي الكبيرة. لكنْ في الحقيقة قَدَّم في هذه الرواية القصيرة صُورة حقيقية لصراعٍ غير متكافئ بين الآلية العسكرية الروسيّة والجنود القوقاز (الداغستانيين)، والانتهاكات التي أحدثتها آلياتهم الحربية أثناء غزواتهم المتلاحقة للقوقاز كما فعل القائد بوتلر في حملته. وقد غيّر الروائي مفهوم بطل الحرب الذي يرى “الفناء وسيلة لتحقيق المجد”، فهُنَا بطله الحاج مراد نموذجٌ حيٌّ لما يُقدِّمه تولستوي عن صورة البطل الذي ينكسر ويشعر بالهزيمة، ولا يتوانى عن الاستسلام. المرجعي والخيال بطل الرواية، الصَّادرة في نسختها العربية أخيرا عن دار التنوير بترجمة هـﭬـال يوسف، الحاج مُراد، هو مُسْلم أفاري من القبائل التي تقطن داغستان، شخصية حقيقية لها واقعها المرجعيّ، التقاه تولستوي عندما زار تيفليس (الاسم القديم لعاصمة جورجيا الآن تبليسي) عام 1851 وقد ذَهَبَ إلى هناك ليؤدِّي امتحان صفّ ضباط الجيش، لكن عند الكتابة عنه استعان بمذكرات القادة الروس وما ذكروه عن بطولاته وشجاعته، فاستعان بما جاء في مذكرات قائد كتيبة كورين فلاديمير ألكسيفيتش بولتوراتسكي، الذي أصبح جنرالاً فيما بعد، وغيره من المراجع.الرواية لا تفرّق بين الصِّراعات الدائرة بين القادة المسلمين كما في صورة شامل والحاج مراد، وهو ما كان بداية النهاية للصراع، حيث استطاع الروس أن ينفذوا إليهم من وسط هذه الصراعات ومع هذه المرجعية في الكثير من الوقائع والأحداث والشخصيات التي يأتي ذكرها في الرواية بما فيها القيصر الروسي نيكولاي، أضاف تولستوي مسْحَة من الخيال على الرواية، وهو ما يتوافق مع مفهوم الرواية الذي رفضه من أسلافه وأثبته بأسلوب جديد، مازجًا بين المرجعي والتخييل في مزيج عجيب، تتوه فيه الحدود، كأن يجعل من لوريس ميليكوف شخصية روائية وإن كانت بسمات الشخصية الحقيقية العسكرية، يحكي أمامه الحاج مراد دوافع هذا التحول، وهو ما سجله في تقريره الذي رفعه إلى القيصر. تأتي صورة الحاج مراد المقاتلة والعقلية الحربية الذكيّة مُتأخِّرة وعلى لسان القادة الروس، الذين اشتبكوا معه في معارك ضارية من قبل، فيحكون عن شجاعته وجسارته في المعارك حتى قالوا إنه “لو ولد في أوروبا ربما كان نابليون الجديد”. ويسترسلون في وصف نُبل أخلاقه وشهامته حيث عامل أسيرته باحترام فروسيّ إلى أن أَخْلى سبيلها. فالكاتب لا يُقدِّم في بداية الرواية بطله الحاج مراد وهو في ميدان المعركة وإنما يُقدِّمه وهو هاربٌ ومستسلمٌ للقيادة الروسيّة، طالبًا العفو وخدمة القيصر العظيم، حيث تبدأ الرواية بهروب الحاج مراد وتخفيِّه في قرية سادو، بعد أن نشب خلاف بينه وبين القائد شامل الذي قام بدور رئيسي في إعلان الحرب الدينية على الروس وكان الزعيم الروحي والقائد الحربي للقبائل، وقد حذَّر شامل مِن استضافة الحاج مراد في الشيشان، وأنذر أنه مَن يُخالف هذا “سيقع تحت طائلة عقوبة الموت”. ورغم أن سادو كان يَعْلَمُ أنَّ أهل القرية يمكنهم أن يَعلموا بوجود الحاج مراد في بيته في أي لحظة، لم يشغله الأمر مُطلقًا بل كان سعيدًا؛ فقد كان يعتبر “أنّ من واجبه حماية ضيفه، أخيه في العهد ولو كلَّفه ذلك حياته”. لكن تتطوّر الأمور ويعرف أهل القرية ويتجمهرون للقبض على الحاج مراد إلا أن سادو مكّن ضيفه من الهرب، وبعد أن تخلَّص من مطاردة أهل القرية، أرسل برسالة إلى قائد الروس كان مُفادها أن يطلب الأمان والانضمام إليهم في مقابل حمايته وحماية أسرته التي يحتجزها شامل تحت قبضته. في نهاية الرواية بعد أن يئس الحاج مراد من مُبادلة أسرته بالأسرى الجبليين يُقرِّرُ من جديد الهرب من الروس لكي يعود لينقذ أسرته من شامل. لكن في الفصل الأخير تكون نهاية الحاج مراد بأن قُطِعَ رأسه بعد أن حلق شعره. صورة من الداخل عبر تواجد الحاج مراد داخل قصور القادة الروس ينقل تولستوي مُشاهدات ووقائع يعيشها الحاج مراد؛ الحياة الداخليّة وأنماط العيش والترف، فالسهرات تُقام كل ليلة عند آل فورونتسوف، بما فيها الحفلات الراقصة والمقامرات والألعاب، وكذلك الحفلات التنكّريّة كما حدث في قصر القيصر نيكولاي. والأهم حياة اللهو والتحلُّل والخيانات. فالفساد والانحلال هو العنوان المُلَخِّص لهذا المجتمع حيث السّرقات والعمولات والرِّق وعُمَّال السُّخرة وقسوة القوانين على الأُونيات مُعتنقي الكاثولوكية اليونانية وغيرها.عوالم متصارعة كما أنَّ الضباط يُنافقون ويختلسون وسكّيرون. والجنود لا تظهر عليهم الهمِّة وهم يحاربون. وعلاوة على الانهيار الأخلاقي، القادة دائمًا لهم عشيقات في حضور الزوجات، وبالمثل الزوجات مُنصرفات إلى آخرين ويتطلعن إلى رغبات حسيّة مع أصدقاء أزواجهن والجنود الصغار. في الفصل التاسع من الرواية يستغرق الراوي الغائب مظاهر هذه الحياة، فيصف لنا سهرة من السَّهرات التي تُقام في قصر فورونتسوف على الشاطئ الجنوبي لشبه جزيرة القرم، عندما أتاه البريد من الجنرال كوزلوفسكي، فيصوِّر بدقة مظاهر هذه الحياة اللاهية لنساء القصر أثناء عبور الضابط حامل البريد إلى القائد. ومثلما يقدّم صورة للمقاتل المسلم عبر شخصية القائد شامل وقبله أستاذه منصور ثمّ الحاج مراد، يُقدِّم في المقابل صورة تعكس عالم الجنود الروس. لا تُفرِّق الرواية بين الصِّراعات الدائرة بين القادة المسلمين كما في صورة شامل والحاج مراد، وهو ما كان بداية النهاية للصراع، حيث استطاع الروس أن ينفذوا إليهم من وسط هذه الصراعات، وانتهتْ بالحاج مراد وشامل نهاية بشعة، من جهة، وبين الصِّراعات الدائرة بين القادة الروس من جهة ثانية، فالتنافس هو العامل المشترك بين الطرفين. يشير إ.ف. تشيتشرين في كتابه “الأفكار والأسلوب” إلى أن تولستوي “رفض اللغة الأدبية التافهة والطرق الأدبية” وكذلك الأجناس الموجودة ولا سيما الرواية منها وكل النظام المجازي الذي التزمه أسلافه ومعاصروه، وهو ما ارتبط بإثبات أسلوب جديد من اللغة والشخصية والجنس الأدبي ومفهوم جديد للرواية بشكل خاص. وعندما ننظر إلى رواية الحاج مراد، نجد التزامًا حقيقيًّا بالمفهوم الذي كان يبحث عنه تولستوي سواء في الشكل أو في المضمون الذي رفضه في روايات تورغينيف حيث الشخصيات الضعيفة تثير الكراهية على حد قوله. في رواية “الحاج مراد” ثمّة بناء روائي بلفوني على مستوى الشكل وكذلك على مستوى اللغة والأساليب. فالرواية تجمع بين اليوميات والمذكرات والمراسلات التي تأخذ صيغ الرسائل تارة والبرقيات تارة أخرى والتقارير تارة ثالثة، إضافة إلى الأغاني الشعبية والأمثال المحلية.
مشاركة :