59 صاروخاً أميركياً من طراز «توماهوك» حملت رسائل مباشرة إلى كل من روسيا وإيران وكوريا الشمالية بالدرجة الأولى، والداخل الأميركي والنظام السوري بالدرجة الثانية. ما أراد أن يقوله الرئيس دونالد ترامب من عشرات الصواريخ التي سقطت على قاعدة الشعيرات الجوية في حمص السورية، هو: «إلى خصومنا الذين استخفوا بنا في عصر أوباما. أنتم في عهد ترامب الذي لا يتردد في كشف كل وسائل ما تبقى من قوة أميركا واستخدامها في أي لحظة»، وهذا ما يثير ارتياح المعارضة السورية التي كانت قد فقدت الأمل للوهلة الأولى بعد تسلم ترامب قيادة البيت الأبيض وطرحه شعار أميركاً أولاً. التنظيمات التي تقاتل النظام السوري تحت مسميات مختلفة، والتي طالما أظهرت مقتها الشديد لـ «أميركا الكافرة»، تعلم جيداً أن ما قام به ترامب -على صعيد مصالحهم الخاصة- لن يعدو أكثر من أن يكون «جعجعة بلا طحين»، وأن ثمة أهدافاً أخرى تسعى إليها واشنطن ستكون هذه التنظيمات أو ما يعرف بالمعارضة السورية أفضل وسيلة لتحقيقها، فترامب الذي ظهر بعد تنفيذ الضربات العسكرية على أنه المنتفض لجثث الأطفال الهامدة في خان شيخون، كان قد فضل السكوت عن بشار الأسد في وقت سابق، لكنه سرعان ما أعاد النظر في هذا السكوت. الأمر أكبر بكثير مما يراه هؤلاء. فمع نهاية سيناريو سيطرة هذه التنظيمات على دول عدة في المنطقة، وبدء جولة جديدة، ليس أمام هذه التنظيمات سوى التشبث بحلم ثورة ترامب لأجلهم، فيما يستعد كل من روسيا وإيران لرد يضمن بقاء وجودهما المفروض ضمن حسابات الولايات المتحدة. لكن، هل بإمكان 59 صاروخاً أن تخيف خصوم واشنطن؟ وهل هي كافية لإعادة ترتيب الوضع كما تريد؟ بالتأكيد لا. بالنسبة الى سورية التي تدعمها روسيا وإيران وفصائل مقاومة «شيعية»، فهي لن تفضل السكوت من دون رد، ليس على مستوى التصريحات وتبرير موقفها فقط، فربما تقوم برد عسكري غير معلن، بل إن استمرارها بقصف مواقع المجموعات الإرهابية والمعارضة السورية التي تدعمها واشطن يعتبر رداً مزعجاً لترامب، لأنه اعتقد بأن هذه الضربة أخافت النظام السوري كثيراً مع ما يرافقها من مآرب أخرى لم يصرح بها، لكنه بارع في اللجوء الى تكتيكات أخرى نجح في استخدامها على مدار سنوات، ومنها التجويع مثلاً، أو فرض حصار على بعض المناطق. أما الوضع المضطرب عالمياً، والذي قد تتوقع واشنطن وحلفاؤها أن بالإمكان إعادة ترتيبه وإصلاحه بمجرد عودتها كلاعب قوي في المشهد السوري والشرق الأوسطي عموماً عبر هذا الاستهداف العسكري، فلن يوفره 59 صاروخاً أبداً. فلا يمكن إهمال الخلافات السياسية المحلية العميقة داخل كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وتركيا وبقية الدول الداعمة لواشنطن والمتحالفة معها، والتي انعكست بشكل كبير على السياسة الخارجية لهذه الدول، وأي محاولة لإعادة ترتيب الأوضاع والاضطرابات في المنطقة تستدعي هدوءاً داخلياً يصعب تحقيقه في الوقت الحاضر. أما روسيا التي تملك سماء سورية وأرضها، فقد فضلت استقبال رسائل واشنطن عبر هذه الهجمة برد هادئ جداً، واكتفت باعتبار الهجوم على أنه «عدوان على دولة ذات سيادة»، لكنها في المقابل عززت دفاعات الجيش السوري. كما تحاول روسيا استثمار هذه التطورات بشكل يضمن لها وجوداً أقوى في المشهد العالمي على حساب تراجع واشنطن، فالرد الروسي تناول مستقبل علاقاتها مع الجانب الأميركي والتعاون العسكري المشترك في سورية لمواجهة تنظيم «داعش» الإرهابي، والحديث الآن يدور حول المخاوف من موت التحالف الأميركي الروسي قبل أن يولد بشكل عملي. يقول رئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس الاتحاد قنسطنطين كوساتشيف: «بشكل أو بآخر، لا تزال صواريخ كروز الروسية تضرب الإرهابيين والصواريخ الأميركية تضرب القوات الحكومية التي توجه الحرب ضد الإرهابيين». ويزيد كوساتشيف: «أخشى مع استمرار هذا النهج أن يلفظ التحالف الأميركي الروسي المناهض للإرهاب في سورية أنفاسه الأخيرة حتى قبل أن يولد». لكن روسيا سعت، منذ العام الماضي، إلى تعزيز قوتها العسكرية جوياً وبحرياً، كما سعت إلى تحديث قاعدة بحرية في ميناء طرطوس، ما ساهم في وجود عسكري خارجي جديد لها. كما أن لها قاعدة جوية دائمة في محافظة اللاذقية تنطلق منها مقاتلاتها، إضافة إلى وجود العديد من المدربين العسكريين وقوات خاصة وقوات من مشاة البحرية ومتخصصين في المدفعية للمساعدة في مساندة القوات الحكومية السورية على الأرض، وهذا ما قد يغنيها عن أي تحالف مع واشنطن فيما لو ساءت العلاقات معها مستقبلاً. تدرك روسياً جيداً حجمها وحجم منافستها الولايات المتحدة، ولو أنها فسرت الهجوم وفق رؤية ترامب قليل الخبرة لوجدت نفسها في مواجهة مباشرة مع نيران الولايات المتحدة. قد ترى روسيا أن 59 صارخاً كروز لا تعني شيئاً بالنسبة اليها، وأنها أكبر من أن تكشف وسائل قوتها في مقابل هجوم لم يستهدفها أصلاً.
مشاركة :