العروبة هوية ثقافية لا يمكن منحها بالجينات لمن وِلِدَ لأجيال في بيئة غير عربية، مثلما لا يمكن سحبها ممن يكتب بها وتُعدّ ثقافته الأولى لأجيال حتى لو كان غير عربي.العرب باسم فرات [نُشر في 2017/04/23، العدد: 10611، ص(13)] ثمة إشكالية يعاني منها أغلب المشتغلين في حقول الثقافة، فيما يخص الاستعمالات الدقيقة للمصطلحات والتعريفات، وقد تناولت بعضها في مقالين منفصلين، الأول يتناول الفرق بين مصطلحي الكتابة والتدوين، والثاني الفرق بين القومية والإثنية والعرق؛ وفي هذا المقال سأركّز على الفرق بين كاتب عربي يكتب بالعربية ومبدع عربي يكتب بغير العربية، ومتى نطلق على مَن يكتب بالعربية وهو من أرومة غير عربية أنه “عربي” ومتى نطلق عليه “كاتب بالعربية”، وكذلك متى نطلق على العربي الذي يكتب بغير العربية أنه “عربي” ومتى تُنزع عنه صفة العروبة أو العربية؟ يعتقد كثير من المهتمين بالتراث والشأن الثقافي بعروبة سيبويه، بوصفه درسَ وتعلّم اللغة العربية في بيئة عربية (البصرة) وقضى معظم حياته في بلد عربي (العراق) ومنجزه الوحيد الذي تركه كان باللغة العربية، أي “الكتاب”، بينما يرون عمر الخيام فارسيًّا، على الرغم من أن معظم مؤلفات عمر الخيام باللغة العربية باستثناء شعره، فقد كان بلغته الأمّ (الفارسية)، وهذه إشكالية لم يوضحها لنا المشتغلون بالحقل الثقافي، فتركوا في الأمر اجتهادات متناقضة، بل سمحت لغير ذوي الاختصاص أن يدلوا بدلوهم، لا سيما بعد فشل المشروع القومي العربي، وسقوطه المريع الذي قامت على أنقاضه مناهضة ومعاداة العروبة حتى بين الناطقين بها. أعتقد أن السبب يكمن في أن سيبويه (765-796 ميلادية) نشأ بالبصرة فكانت ثقافته عربية، وفي وقته لا وجود لشعراء وأدباء ومؤرخين وباحثين ومصنفين كتبوا باللغة الفارسية، فالفردوسي (935-1020 ميلادية) صاحب الشاهنامة يُعدّ أول شاعر بتاريخ اللغة الفارسية، ولم يُثبت لنا التاريخ وجود ثقافة فارسية تدوينية سبقت ولادة سيبويه أو سبقت وفاته، بينما نشأ عمر الخيام (1048-1131 ميلادية) في ظل ثقافتين تدوينيّتين؛ الأولى هي الفارسية وقد كتب فيها شعره وبعض مؤلفاته؛ وإن كانت أحدث في التدوين من الثانية؛ التي هي العربية وقد دَوّنَ فيها معظم مؤلفاته. إذن يُعدّ عمر الخيام فارسيًّا على الرغم من أن معظم منجزه التدويني باللغة العربية، لكن كتابته لرباعياته الشهيرة وبعض رسائله وكتبه بلغته الأم وحضور ثقافة تدوينية بها؛ جعله ينتمي للغته الأم قوميًّا؛ أي الفارسية، وهذا ما لم يحدث مع عالم العربية سيبويه، الذي كانت اللغة الفارسية قبل ولادته وفي زمانه تفتقر إلى منجز كتابيّ. وقد كتب الأكاديميّ الفلسطيني إدوارد سعيد باللغة الإنكليزية، لكنه يُعدّ كاتبًا عربيًّا، لأنه ولد وترعرع في أرض عربية، وكانت دراسته في الإسكندرية -وإن كانت باللغة الإنكليزية-لكنه يحمل إرثه العربي ودافع عنه بكتابه “الاستشراق”، ولم تتوارث الكتابة بالإنكليزية أسرته لأجيال؛ لذلك هو عربي كتب بالإنكليزية. ما ينطبق على إدوارد سعيد ينطبق على مَن كتبوا بغير العربية من العرب، من الذين لم يؤثر عن آبائهم وأجدادهم الكتابة بغير العربية، فهؤلاء عرب كتبوا بغيرها، بينما مَن نزح إلى دول اللجوء والهجرة وجعلها وطن استقراره الدائم ويكتب بالعربية هو عربي، لكن الأجيال التي تنبت جذورها في بيئة أخرى ولغة أخرى تُشكل هويتهم؛ فهم أبناء تلك اللغة الجديدة وإن كانت جذورهم من أرومة عربية لا تربطهم بها صلة ثقافية ما. العروبة هوية ثقافية لا يمكن منحها بالجينات لمن وِلِدَ لأجيال في بيئة غير عربية، مثلما لا يمكن سحبها ممن يكتب بها وتُعدّ ثقافته الأولى لأجيال حتى لو كان غير عربي؛ مَن يكتبون بالفرنسية والإنكليزية يكتبون بلغة طارئة على جغرافيتهم الثقافية، فليس لدينا منجز فرنسي أو إنكليزي يمتدّ لقرن قبل الحرب العالمية الأولى؛ بينما مَن يكتبون بالعربية وهم من أرومة أخرى؛ هم أبناء لمنظومة وهوية قومية ثقافية هي العروبة، بحكم المجاورة والإسهام الفاعل لأروماتهم فيها. كاتب من العراقباسم فرات
مشاركة :