قضيتنا الكبرى، كمجتمعات محافظة، تكمن في التوجس والخيفة وتقديم سوء الظن من كل جديد بينما الواثق الحر يدعو للتجديد والانفتاح يعرّف مونتسكيو الحرية بفعل كل ما لا يضير غيرك، والتي من الممكن تلخيصها بعبارة «أنت حر ما لم تضر». لا زلنا نعيش ضبابية مفهوم الكلمة وأحيانا التوجس من مفردة «الحرية» علاوةً على الوقوف نداً أمام بعض الأعمال أو المشاريع التي قد تصب نحو تحقيق الحرية الشخصية. الحرية استقلالية في التفكير والتصرف واتخاذ القرار وغياب الإكراه الفكري والسلوكي، فالإنسان المكره على عمل الخير لا يُمدح بفعله لذلك الخير لأنه مكره عليه وليس مختاراً، والمكره على الفعل السيئ لا يؤاخذ بجريرته تلك لأنه مرغم عليه، وحين يُفرض على المجتمع شيء فلا يتميز فيه الصادق من غيره. المراد بالحرية هنا الحرية الفردية المقننة وغير المنفلتة، حيث لا إفراط ولا تفريط، فالإفراط في الحرية يبعث على الدمار والخراب، والتفريط فيها باعث على العبودية وثقافة القطيع، وفي هذا يقول الفيلسوف برتراند راسل: (كثير من الحرية يجلب الفوضى، وقليل منها يجلب الركود). فكرة الحرية كسلوك هي، في الواقع، احترام وقبول السلوكيات أو الأفكار المختلفة والانفتاح على الأفكار الجديدة. تأريخ الإنسان هو تأريخ البحث عن الحرية كمطلب وتوق بشري ليعيش بكرامة وعزة. لقد أجمعت الدراسات على أن الحرية فطرة وغريزة بشرية وجزء من إنسانية الإنسان، حتى الحيوان والطير وكل الكائنات الحية تصبو للحرية. يُذكر أن البلبل لا يُنجب في القفص، وفيه يقول عمر أبو ريشه: لو يعلم الصياد ما صاده لم يجعل البلبل في صيده يتبين معدن الإنسان من خلال منحه الحرية، لكونها مرتبطة بالمسؤولية، لذلك فإنه كلما زادت المسؤولية تقلصت الحرية، ونلاحظ هذا في المواطن المقيم خارج الوطن في بلاد منفتحة لدواعي العمل أو الدراسة، تجده يشعر بالمسؤولية من خلال الحرية الممنوحة له وليس من خلال افعل أو لا تفعل. إن مصادرة حرية الإنسان تعني قتله معنوياً، ومواصلة قمع حريات الفرد والمجتمعات شرارة مدمرة تتحين رائحة الوقود لتُلهب الساحة بمن فيها. الحرية بأشكالها السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية ليست عقيدة ولا مذهبا لكنها مطلب جاءت بها الشرائع السماوية والأرضية كرامة للإنسان. إن أهم أنظمة العلاقات البشرية ترتكز على أربع قضايا محورية؛ الحرية، العدالة، المساواة والتعددية، والهروب من هذه المحاور قد يؤدي لممارسة الحركات الفاشية والشمولية. هل يوجد أثمن من الحرية في التفكير وطرح الرأي دون مخاوف حقيقية؟ للأسف، فإن الموجود في مجتمعاتنا العربية اصطفاف نسقي إقصائي لا يؤمن بحرية الفكر ولا حرية التعبير. لدينا مخاوف من الأطروحات الجديدة في كل مجالات الحياة وسببها ربما يتضح في تعريف علماء النفس بنوعي الشخصية البشرية وهما: الشخصية الانطوائية والشخصية الانبساطية. فالشخصية الانطوائية تجد استقرارها النفسي دائمًا في تحفظها والانغلاق على ذاتها وثقافتها، خوفًا على هويتها، أما الأخرى (الانبساطية) فهي أكثر جرأة في هذا الجانب، ولا تجد ما يمنع أو يخيف من التواصل مع الآخرين والتعرف على تجاربهم ومكتسباتهم. قضيتنا الكبرى، كمجتمعات محافظة، تكمن في التوجس والخيفة وتقديم سوء الظن من كل جديد بينما الواثق الحر يدعو للتجديد والانفتاح والإصلاح والتعددية ودعم الحريات العامة والخاصة، أما المناهضون للحريات فهم يقدّمون دوماً مبدأ سوء الظن والاحتراز والخوف المبالغ فيه رغم أن «أكثر المخاوف لا حقيقة لها».
مشاركة :