يبدو أننا أمام حالة فكرية معقدة عندما نتحدث عن صيغة جديدة من الافكار انتجها لنا تاريخ طويل من تحريف المسار الحقيقي للطبيعة الدينية المتسامحة واللينة، هذه الصيغة هي مصطلح "الإسلام السياسي" هذا المصطلح الذي اكتشفنا من خلاله تلك الافكار المغشوشة لمشروعات اسلامية تم من خلالها تغيير الهيكل المعتاد لفكرة الدين حيث يتأرجح السؤال الدائم حول دور الدين في الحياة بين الاطلاق وبين النسبية في حدود الحياة للإنسان.. الإسلام السياسي هو المسؤول الاول عن تغيير فكرة الدين من فكرة التسامح الى فكرة التسلط، فقد حوّل الإسلام السياسي الدين من حالة الأخوة الروحانية بين الافراد الى حالة التسلط والقهر بين ذات الأفراد، فالفكرة الاخطر التي ولدت مع الإسلام السياسي هي اعتناق منهجٍ فرض شكلا من الحياة الدينية بالقوة وبتفاصيل محددة. هناك شعوب ومجتمعات قطعت مسافة كبيرة من التاريخ وهي تعتنق منهجها الخاص في التعاطي العقدي عبر مذهبها او اسلوبها في الدين، فلماذا يراد لهذه الشعوب او المجتمعات عبر الإسلام السياسي ان تنسف تاريخها التعددي والمتسامح والمتكيف لتعتنق مسارا واحدا دون غيره..؟ مجابهة التاريخ بهذه الصورة هي أول مؤشرات الفشل التي فرضت نفسها على الإسلام السياسي..! وإذا ما وصل الإسلام السياسي الى قمة السلطة فإنه يرتكب الاخطاء الخطيرة التي تؤدي به الى الفشل وهذا ما مرت به الحالة التي واكبت الثورات العربية ولن يتمكن الإسلام السياسي من النجاح في أي وطن مهما كان الا بشرط تاريخي كبير يتمثل في التنازل عن مبدأ طغيان السلطة باستخدام العقائد. الشرط الثاني ويتمثل في تغيير المسار فحزب الإسلام السياسي في أي موقع سيكون عليه الاختيار بفعل المواجهة التاريخية الحاسمة بين الدين والسلطة، إما العودة الى احضان المجتمع والبقاء في أروقته وبين دور العبادة، او الصعود والبقاء في مسارات السلطة دون التزام بتلك الافكار التراثية التي كان يمارسها في اروقة المجتمع ودور العبادة. التركيبة التاريخية الحديثة لجماعات الإسلام السياسي والتي نشأ معظمها في بدايات القرن العشرين تعتبر ضعيفة من المنظور السياسي فتجربتها السياسية تفتقد حقيقة المعارضة السياسية فقد اعتمدت جماعات الإسلام السياسي في الدول العربية ليس على المعارضة القائمة على المشاركة في التنمية او تعديل المسار التطويري للمجتمع او تقديم مشروعات مجتمعية قابلة للتطبيق. الخطأ التاريخي خلف فشل جماعات الإسلام السياسي في معارضتها هو اعتمادها الدائم على فكرتين الأولى فكرة المظلومية من الحكام وهذا مسار تاريخي لا يمكن إنكاره، الفكرة الثانية نشرها الدائم بأن أعداء الإسلام السياسي هم اعداء للدين والعقيدة وهي بذلك كسبت الطبقة الشعبية في المجتمعات العربية وهذه الفكرة تشكل أخطر الافكار المستخدمة في مسارات الإسلام السياسي. عندما وصلت جماعات الإسلام السياسي الى السلطة مع الثورات العربية وخاصة في مصر تشنجت جميع افكارها وبدا وكأنها لم تكن مستعدة للوصول الى هذه المكانة، فكان الخيار الاول لهذه الجماعات هو السيطرة على مفاصل المجتمع بطريقة بدائية تشبه ادارة الجماعات في المستوى الشعبي. لم تكن جماعات الإسلام السياسي تفهم اللعبة السياسية تماما وخاصة في تعاملها مع مؤسسات سياسية عريقة كالجيوش والشرطة والاستخبارات والمؤسسات البيروقراطية ومؤسسات المجتمع المدني.. الخ من مؤسسات الدولة، لهذا السبب فشل الإسلام السياسي في تقدير آليات التحكم في الدول بينما هم لا يعرفون سوى آليات التحكم في الجماعات الصغيرة والمحدودة والتي تحكم بالعاطفة الدينية البحتة حيث تكفي الفرد او الجماعة الصغيرة تهديدات بالثواب والعقاب الديني للتراجع عن اخطائه بينما هذه الفكرة لا يمكن ان تسيّر مجتمع دولة بكل اختلافاته السياسية. اعتادت جماعات الإسلام السياسي على تفسير شعبي لمصدر سلطتها يعتمد تطبيق الدين في نواحي الحياة وهذه الفلسفة شكلت مصدر التأييد الشعبي العارم لهذه الجماعات والفارق التاريخي الذي اوجدته جماعات الإسلام السياسي في القرن العشرين هو خلق ممثلية للدين تتمثل في جماعات إسلامية مثل جماعة الإخوان المسلمين وهذا معاكس تماما للسياق التاريخي الذي اعتادت عليه الدول الإسلامية منذ عهد الخلفاء الراشدين فلم يكن السياق التاريخي الذي أتى بالخلفاء الراشدين او من أتى بعدهم يعتمد الحزبية السياسية القائمة على المنافسة في تطبيقاته الايديولوجية. لقد كان مسار التاريخ في السياسة الإسلامية الى حد كبير يعتمد الدين كشعار واستدلال تراثي وليس كمشروع سياسي يحدد منتصرا وخاسرا وفق ايديولوجيات بعينها ومشروعات فالخلفاء الراشدون أنفسهم أو من أتى بعدهم لم يكن اختيارهم لمناصبهم وفق مشروعات روحانية بل كان وفق أحقية سياسية عملت من خلالها الكثير من العوامل الاجتماعية والثقافية والتاريخية دورا في تحديدها. لقد كان تحويل الدين بمفهومه الميتافيزيقي الى مشروع سياسي من أكبر الاخطاء التي جسدها لنا المشروع الخاص بجماعات الإسلام السياسي في القرن العشرين والاخطر من ذلك كله هو ذلك التسطيح الكبير لفكرة الدين حيث اعتقد كل فرد بسيط في المجتمع انه قادر على تنفيذ المشروع السياسي للدول لمجرد كونه معتنقاً للدين او يمارس طقوسه وهذه هي الازمة الاكبر ظهورا وهذا ما يفسر ان قيادات الإسلام السياسي التي عرفها التاريخ الحديث هي قيادات يغلب عليها الطابع الدعوي في خطابها وتمارس الاستدلال التراثي في توضيح فكرتها بل الاخطر انها قيادات ترى ان قناعاتها صحيحة وغير قابلة للاعتراض وهذا اول الاسباب في فشلها كمشروعات سياسية. فشل جماعات الإسلام السياسي لن يتوقف فهو عبر التاريخ يتحول الى عنف استنادا الى كونه يمتلك الحقيقة لذلك كل فشل تاريخي للإسلام السياسي يتبعه مشهد طويل من العنف التاريخي والقسوة والظلم . إن غياب القراءة التاريخية الصحيحة لطبيعة الحكم في التاريخ الإسلامي أثر في دور الإسلام في الحياة واصبحت الخلافة الإسلامية المنشودة ممارسة تشددية جافة ومثالا تاريخيا لتطبيق الفروض والواجبات الفردية والمتطلبات الروحية بينما غابت فكرة الخلافة الإسلامية كمشروع سياسي استطاع في مراحل ذهبية من تاريخها الموازنة بين فكرة الدين والدولة.
مشاركة :