لندن: «الشرق الأوسط» عندما عينت «ديور» البلجيكي راف سيمونز ليخلف البريطاني جون غاليانو كمصمم فني للأزياء النسائية، هلل معظم متابعي الموضة فرحا. فراف سيمونز له مكانة مميزة كمصمم أكد قدراته سواء في خطه الرجالي الخاص، أو كمصمم في دار «جيل ساندرز» سابقا. تهليل لم يمنع البعض الآخر من التحفظ وعدم الثقة في أنه الاختيار الأمثل. فمن جهة، كان النقيض التام لجون غاليانو، الذي خلق للدار أسلوبا دراميا ومسرحيا، ومن جهة ثانية، فإن «ديور» تعبق بالرومانسية والأنوثة منذ أن أسسها السيد كريستيان ديور، وهو ما لم يكن واضحا في أسلوب سيمونز قبل دخولها. قدم التشكيلة الأولى ثم الثانية، وسرعان ما بدد كل التحفظات وأكد أنه رومانسي بكل معنى الكلمة وأن كل ما كان يفتقد إليه هو الجرأة والمنبر للتعبير عن هذه الرومانسية. وجد في باقات الورود والأزهار وسيلة رائعة للتعبير، حيث زينت تشكيلاته بشكل سلط الضوء على الأنامل الناعمة التي تعمل في ورشات الدار وتتفنن في إنجاز أي تصور يتفتق عنه خيال المصمم. بدا واضحا منذ البداية أنه استلهم هذه الباقات من مسقط رأس السيد كريستيان ديور، غرانفيل، وتحديدا الفيلا التي قضى فيها طفولته بحديقتها الغناء التي تطل على جزر «تشوزي» Chausey islands. عاشت العائلة في هذه الفيلا إلى الثلاثينات، قبل أن تضطر لبيعها، بكل ما فيها من أثاث، بعد أن تعرضت لمشكلات مالية جسيمة. منذ ذلك العهد، لم يعد المصمم إليها، ومع ذلك فإن كل ما فيها لا يزال يحكي قصة عائلة ميسورة وطفلا سعيدا كان يلعب بين رحابها يقطف الأزهار ويتنزه فيها مع والدته مادلين ويساعدها في تصميم كل ركن فيها، بما في ذلك المسبح. في مذكراته الخاصة كتب: «حياتي وأسلوبي يدينان بكل شيء تقريبا لموقع البيت ومعماره». كما كتب: «من المستحيل أن تخطئ إذا أخذت الطبيعة كمثال». مما لا شك فيه أن هذه الفترة، لم يكن لها أكبر الأثر على المؤسس فحسب، بل أيضا على الدار التي تحمل اسمه ولا تزال الورود والأزهار والزنابق المائية، إضافة إلى ألوان السماء، خصوصا برماديتها، جزءا لا يتجزأ من رموزها وجيناتها، سواء تعلق الأمر بالأزياء أو بالعطور أو الجواهر على مستوياتها. في عام 1997 تم شراء البيت من جديد ليحتضن متحف كريستان ديور، الذي تحكي فيه «ديور» للأجيال القادمة قصة هذا الطفل الذي شب ونضج ليهدي المرأة أجمل الباقات والتصاميم، التي تحاكي في الكثير من الأحيان اللوحات الفنية. وهذا ما يحتفل به متحف كريستيان ديور في مسقط رأسه، غرانفيل، هذا الصيف من خلال معرض بعنوان «إمبريشين ديور» Impression Dior، يدخل في إطار مهرجان «نورماندي والفن الانطباعي» الذي تشهده المنطقة ككل. معرض يستحضر لنا تلك العلاقة التي ربطت المصمم، ليس بالطبيعة وحدها، بل أيضا بالفنانين الانطباعيين، الذين صادق الكثير منهم واستقى منهم كما استقوا منه. والآن ورغم مرور أكثر من نصف قرن على بعض هذه الأزياء واللوحات، إلا أنها تعكس بقوة تلك العلاقة التي تربط الموضة بالفن عموما والسيد ديور برنوار، ديغا ومونيه وغيرهم خصوصا. فلوحة رينوار Roses Mousseuses مثلا تظهر مدى تأثيرها على فستان صممه السيد ديور باسم «روز دو فرانس» في عام 1956، وفستان آخر صممه جون غاليانو في عام 2005 تحية لمادلين، والدة السيد ديور، وضع إلى جانب لوحةThree Women with Parasols للفنانة ماري براكموند ليؤكد هذه العلاقة، بالإضافة إلى فستان سهرة من تشكيلة راف سيمونز لربيع وصيف 2013، مكون من ثلاث طبقات من التول المطرز يشد انتباهك بفنيته العالية وحرفية الأنامل الناعمة التي أنجزت كل جزئية فيه بشكل يعطي الانطباع وكأنه يتفتح أمام ناظريك. تجدر الإشارة إلى أن السيد كريستان ديور، حقق في عام 1947، ثورة في عالم الأزياء، عندما أطلق ما أصبح يعرف بـ«ذي نيو لوك». إطلالة تتميز بجاكيت محدد عند الخصر يتسع عنه بعض الشيء إما مع تنورة مستقيمة أو تنورة فخمة مستديرة. كان المصمم سخيا في استعماله أمتارا طويلة من الأقمشة، مما أثار عليه حنق الكثير من الرجال الذين اتهموه بأنه غير مبال بالوضع الاقتصادي الذي كان يمر به العالم بعد الحرب العالمية الثانية. أما المرأة فلم تصدق حظها، وأعربت عن سعادتها بمعانقة هذه الموضة بكل جوارحها وإمكانياتها. فبعد تقشف عاشته طوال سنوات الحرب، كانت تحن إلى بعض الترف ومن يذكرها بأنوثتها المفقودة. لحسن حظ ديور، غلب فريق النساء، لأن «ذي نيو لوك» ساد ولا يزال لحد الآن، وإن بطرق متجددة في كل مرة لتخاطب المرأة العصرية. ويقال إن المصمم استلهم هذا «اللوك» من صورة وردة متفتحة، أوحت له بأن يبدأ برسم جذوع رقيقة وعليها خطوط تشبه تويجات الورود الواسعة، فضلا عن استعمال ألوان بدرجات الورود والأزهار التي تذكر كيف كانت تنمو وتتفتح في بيت الطفولة القديم. مات السيد ديور فجأة في عام 1957، وترك إرثا غنيا، غرف منه كل المصممين الذين توالوا عليها، من إيف سان لوران وجيانفرانكو فيري إلى جون غاليانو وراف سيمونز. كل واحد منهم ترجم طبيعة هذه الحديقة بأسلوبه، وإن كان أسلوب كل من جون غاليانو وراف سيمونز أكثر رسوخا في الذاكرة لقربهما الزمني منا. غاليانو ترجمها بطريقة شبه حرفية، حيث أظهر المرأة في الكثير منها وكأنها فعلا وردة متفتحة ومتحركة. أما راف سيمونز فترجمها بطريقة أكثر هدوءا وواقعية، وفي كل الحالات، تشير إلى عبقرية المؤسس ورومانسيته التي بدأت في حديقة بيت الطفولة. يذكر أن السيد كريستيان ديور قبل أن يصبح واحدا من أهم المصممين العالميين، كان يحلم بالعمل في المجال الفني. وبالفعل افتتح معرضا صغيرا عام 1928 كان يبيع فيه لوحات لفنانين من أمثال بابلو بيكاسو، لكنه اضطر لإغلاقه بعد أن تعرضت أسرته لمشكلات مالية أدت إلى إفلاسها. بيد أن صداقته بالكثير من فناني عصره من أمثال جون كوكتو وبيكاسو وماكس جاكوبس وجورج أوريك وغيرهم، أثر عليه وساعده إلى ترجمة هذا الفن في فساتين لا تزال تؤثر على سوق الموضة إلى الآن. سيمتد المعرض بغرانفيل إلى شهر سبتمبر المقبل
مشاركة :