محمد العريان ما لم تكن مقتنعاً بأن مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي سوف يقدم على انتهاج سياسية مالية أقل تشدداً، وهو ما لا أعتقد به أنا شخصياً، فمن العسير فهم الظاهرة الغالبة على الأسواق حالياً وتتجلى في المستويات المتدنية من معدلات العائد على السندات إلى مستويات تاريخية والارتفاع النسبي في أسعار الأسهم. ولا شك أن المستويات الأكثر أهلية للديمومة والصمود ربما تكون في مرحلة وسط سواء في الأولى أو الثانية. ويتوقف موعد وموقع ومقدار بلوغ تلك المرحلة الوسطى بشكل رئيسي على التوازن بين مؤثرات العوامل الجيوسياسية والسياسات الاقتصادية.وقد برهنت أسواق الأسهم خلال الفترة الماضية على درجة مرونة استثنائية في إدارة ظهرها لما يجري على الساحة السياسية العالمية وبالتالي تبديد المخاوف الناتجة عن التطورات الجيوسياسية. وهذا يعني أنها كي تتجنب ذلك اعتمدت بقوة على قناعات راسخة في السوق فيما يخص الانتعاش الاقتصادي وتصاعد النمو والمواقف الإيجابية، بل المساندة للبنوك المركزية خاصة لجهة ضخ المزيد من السيولة لتحفيز الأداء الاقتصادي. وفي هذا الإطار ترى قوى السوق الفاعلة في أرباح الشركات القوية والنمو الاقتصادي ما يعوضها عن هشاشة الأوضاع السياسية.لكن هذا لا ينطبق على أسواق السندات الحكومية. ففي هذه الأسواق تراجعت معدلات العائد على سندات الخزانة الأمريكية فئة السنوات العشر مؤخراً إلى ما دون نطاق 2.3% و2.6%، الذي صمدت عنده بعد الانتخابات الأمريكية في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وذلك تحت تأثير القلق الجيوسياسي والذي تزامن مع مخاوف تتعلق بانخفاض معدلات التضخم واستمرار معدلات النمو الضعيفة.وهذه ليست المرة الأولى التي تصدر فيها إشارات متناقضة عن الأسهم والسندات الحكومية ولن تكون الأخيرة بالطبع. يضاف إلى ذلك أن هذا التأرجح تزامن مع ظواهر أخرى مماثلة شملت التباين الواضح في مؤشرات ثقة المستهلكين والشركات، بين المعلومات المشجعة التي جمعتها استطلاعات الرأي والبيانات المحبطة على أرض الواقع.وينبغي أيضاً عدم إغفال احتمالات التذبذب غير المنتظم صعوداً أو هبوطاً. فمن الواضح بكل بساطة أنه عند المستويات الراهنة تتفوق الأسهم أداء على السندات عند النظر إليها ومقارنتها مع القراءة الحالية لانتعاش معدلات العائد.إلا أن حالة عدم الاستقرار التي يشهدها السوق في هذه المرحلة على وجه الخصوص قد طال أمدها وتجاوزت أبعاد كل التأويلات الممكنة بما في ذلك التأكيد على التموضع الفني للأسواق.وفي الواقع ربما تكون الطريقة الأنجع في تفسير واستيعاب ظاهرتي الأسهم المرتفعة والسندات ذات العائد المنخفض في هذه المرحلة والتوفيق بينهما، في التنبؤ بتجديد مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي توجهاته نحو تخفيف قيود السياسة النقدية.وفي غياب تراجع محبط في الأداء الاقتصادي من النوع الذي يحدث هزة في أسواق الأسهم، لن يكون الرهان على المجلس رابحاً. وفي واقع الأمر فإنه مع ميل ميزان المخاطر نحو التراجع، تبقى احتمالات إصدار المجلس قرارين برفع أسعار الفائدة هذا العام قائمة، إضافة إلى اعتماد خريطة طريق لتطبيع الميزان الختامي للمجلس الذي تفاقمت مديونيته.والنتيجة هي أن التوافق بين الإشارات المتناقضة التي تصدر عن الأسهم والسندات الحكومية يرجح أن يتم عبر ارتفاع معدلات العائد على السندات أو تراجع أسعار الأسهم. وعندما يحدث ذلك التوافق حيث يستقر كل منهما، سوف يتحكم في عملية التوازن على الأغلب مؤثران: مدى تأثير تطورات الوضع السياسي العالمي في صورة النمو الاقتصادي، والمدى الذي يمكن أن تبلغه الإصلاحات في السياسة الأمريكية لمصلحة تحقيق معدلات نمو حقيقي ومستدام. وإلى أن تنجلي الصورة سوف يزداد قلق المستثمرين حول الرهان على تقلبات السوق المزمنة. *كبير المستشارين في شركة «أليانز»
مشاركة :