حين كانت البشرية كلها منهمكة خلال الحرب العالمية الأولى بمجريات تلك المجزرة الجديدة من نوعها على النوع الإنساني نتيجة شموليتها وعالميتها. حين كان البشر جميعاً مرتعبين غير مؤمنين بأي مستقبل وأي خلاص، كان هناك عالم بالكاد يدنو من أعوامه الثلاثين، جالساً الى طاولة كتابته بكل هدوء وبقدر كبير من التجرد، يحبّر طوال أعوام الحرب، أي بين 1914 و1918 ألوف الصفحات بوتيرة كتابة متسارعة، همه الأول فيها أن يستخلص الدرس الأممي الجديد الذي وفّرته حرب شارك فيها معظم البشر قتالاً أو تعاطفاً أو حتى رعباً، لأول مرة في تاريخ البشرية. كان ذلك العالم الشاب يدعى آرنولد توينبي. أما الكتاب الذي سيصدر منه ستة أجزاء ضخمة، - لكنّ أياً من أجزائه لن ينشر قبل خمسة عشر عاماً تالية، بدءاً من 1933-، فهو سفره الكبير في التاريخ ولكن في علم التاريخ أيضاً والذي سيحمل عنوان «دراسة في التاريخ» ليقدم لقراء زمنه أضخم توليفة من نوعها حول التاريخ الإنساني منذ «الخطيئة الأولى» حتى خطايا ومذابح القرن العشرين. لقد نشر توينبي دراسته الضخمة تلك على مراحل زمنية: الأجزاء الثلاثة الأولى بين العامين 1933 و1934، أما الأجزاء الستة التالية ففي عام واحد هو 1939. ولئن كان المؤلف قد شاء أن يتابع عمله في جزء أو جزءين آخرين، فإن اندلاع الحرب العالمية الثانية أوقف المشروع. والحقيقة أن كثراً من المؤرخين وجدوا أن من حقهم التساؤل عما كان يمكن أن تكون عليه الفصول التي لم تكتمل بعد ثلاثة عقود من اكتمال الأجزاء الأولى. > والحال أن مشروعية هذا السؤال تنبع من أن السنوات الفاصلة بين إنجاز الأجزاء الأولى واستكمالها، كانت شهدت مجموعة «ثورات» بالغة الأهمية في مجال كتابة التاريخ، وأبرزها ثورة مدرسة الحوليات التي لا شك في أن المؤلف كان مطلعاً عليها، لكن ليس ثمة أية إرهاصات بها في مؤلفه الضخم. فهو بعد كل شيء كان كلاسيكياً من النوع الذي لا يزال يرى التاريخ مجرد حركية في الحوادث السياسية والانزياحات الكبرى، قبل أن يجعل «أهل الحوليات» من التاريخ والأديان والاقتصاد والثقافة وتقلبات المناخ والفكر كلاً واحداً شمّالاً. بالنسبة الى «دراسة في التاريخ» ثمة ما هو أهمّ: تاريخ الإنسان نفسه والحوادث الكبرى التي عصفت به موحّدة هذا التاريخ في سياق واحد يتتابع منذ فجر الإنسانية حتى اليوم. طبعاً هناك تمايزات وقفزات، يفصلها توينبي بكل براعة وسعة علم، لكن الأساس يبقى بالنسبة اليه جريان التاريخ في نهر واحد أساسي، ودائماً انطلاقاً من مبدأ التحدّي والاستجابة الذي طبع الفكر التوينبي على الدوام. ومن هنا يصبح التاريخ حركية متواصلة، يُعتبر كل تبدل أو قفزة فيها مجرد تحد يتعين على حركة التاريخ ان تستجيب لها. > صحيح أن هذا المبدأ لم يكن جديداً ولم يكن توينبي مبتكره، لكنه بدا لديه مسيّراً لحركة التاريخ أكثر من أي وقت مضى بحيث إن الباقي يبقى تفصيلاً في سيرورة الفعل التاريخي يمكن تصوّره من دون التوقف عنده. ومن هنا حين عمد المؤرخ دي. سي. سامرفل الى اختصار ذلك السفر الضخم في سنوات الخمسين في مجلد واحد، قرأه ملايين الناس وهم في غنى عن مراجعة الأجزاء «المسهبة» إن لم يكونوا من المختصّين. أما بالنسبة الى توينبي فقد بقي في الحالتين واحداً من أشهر علماء التاريخ في الأزمنة الحديثة. وليس هذا فقط. > ولنقرأ: «... وشن المؤرخ العظيم حملة صادقة على العدوان الأثيم. ووجّه لوماً شديداً الى حكومة بلاده لاشتراكها في مؤامرة دنيئة ضد بلد أسْدى أعظم ما تعتز به الحضارة الإنسانية من مثل عليا وأمجاد رائعة، ولا ذنب له الا رغبته في العمل على مسايرة ركب الحضارة العصرية وحل مشكلات الفقر والجهل والمرض». وطبعاً هذا «المؤرخ العظيم» الذي تتحدث عنه هذه العبارات هو أرنولد توينبي الذي الى كونه ذلك المؤرخ الكبير في القرن العشرين، كان طوال الخمسينات والستينات محط إعجاب واحترام الرأي العام العربي، ليس انطلاقاً من كونه مؤرخاً، بل لأنه عرف في كل المناسبات كيف يعبر عن تعاطف مع القضايا العربية. وهذا التعاطف هو ما تُحدثنا عنه العبارات الواردة اعلاه، والتي تشكل السطور الأولى من كتاب أصدره المصري فؤاد محمد شبل عن توينبي محاولاً فيه ان يرد للرجل بعض جميله على العرب... وذلك في وقت كان فيه توينبي محط هجومات صارخة من جانب «الفكر التقدمي» في بريطانيا وفرنسا تتهمه حيناً بالمثالية وحيناً بالرجعية، وأحياناً بالتواطؤ الرسمي مع الحكومة البريطانية التي كان يعمل، على اي حال، لحسابها في مجال اختصاصه. ولقد كان أعنف هجوم شن على توينبي في ذلك الحين، الهجوم الذي شنته عليه سيمون دي بوفوار في كتابها «واقع الفكر اليميني» حيث كان من الواضح ان وراء هجومها موقفه الواضح والصريح من قيام الدولة الإسرائيلية. بيد ان هذه الخلفيات كلها لا تخفي مكانة أرنولد توينبي الحقيقية، حيث اننا اليوم بعد رحيل الرجل بنحو ثلث قرن (1975)، بإمكاننا ان ننظر اليه نظرة موضوعية لنكتشف توينبي الحقيقي خلف هجمات معارضيه، وتقريظات مناصريه (العرب خاصة). > فالحال ان أرنولد توينبي كان رغم كل شيء واحداً من ابرز فلاسفة التاريخ على مرّ الأزمان، وحسبنا للتيقن من هذا ان نقرأ «دراسة في التاريخ» حيث نجده قد رسم للتاريخ فلسفة تقوم على اساس مبدأ التطور الدائري وانحلال الحضارات. وهي فلسفة أثارت زوبعة من السجال من حولها، ولا تزال. والحقيقة ان توينبي عرف كيف يثير السجال في كل ما كتبه. ولعل دراسته في سنواته الأولى في «المدرسة البريطانية» بأثينا، بعد تخرجه في جامعة اكسفورد، كانت هي ما حدد نظرته الى انهيار الحضارات، من خلال اطلاعه على تفاصيل ما حل باليونان الإغريقية. > في 1912 وكان في الثالثة والعشرين من عمره، أضحى توينبي أستاذاً مساعداً للتاريخ القديم في اكسفورد. وبعد ذلك بثلاثة أعوام، انضم الى جهاز المخابرات التابع لوزارة الخارجية البريطانية، وهو بتلك الصفة شارك في مؤتمر باريس للسلام في العام 1919. وبعد ذلك تقلب توينبي في أعمال عدة حيث رأيناه مرة أستاذاً جامعياً، ثم مراسلاً صحافياً خلال الحرب التركية - اليونانية، وكانت تلك الحرب هي التي أوحت له بوضع واحد من اوائل كتبه «المسألة الغربية في اليونان وتركيا» (1922). اما كتابه الأكبر «دراسة في التاريخ» فقد شغله طوال السنوات الوسطى من حياته. وإذا كانت الحرب قد أدت الى تقطّع العمل في ذلك الكتاب، فإن ما فاقم ذلك كان تقلب توينبي في العديد من المهام والمهن. لكن مؤرخنا لم يقصر عمله طوال تلك الفترة على سفره الضخم بل راح يكتب، كتباً ودراسات طاولت العديد من المواضيع من تواريخ الأديان الى الحضارة الغربية الى كتب الرحلات. > كما أشرنا، تقوم فلسفة توينبي التاريخية على مبدأي «التحدي والاستجابة» من ناحية و «الانهيار الحتمي» للحضارات من ناحية ثانية، في حركة دائرية لا بد منها. وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي لنظرة توينبي للتاريخ ان تتأسس على التعامل معه على انه مسار لتاريخ وحدات حضارية، اكثر منه مسار لتواريخ الأمم والشعوب. فالأمم والشعوب لا تخلق ولا تنهار بالنسبة، اليه، ما ينهار هو الحضارات التي يحمل توينبي طبيعة انهيارها في ثلاث نقاط: قصور الطاقة الإبداعية في اقلية المجتمع - عزوف غالبية المجتمع عن محاكاة اقليته - تفكك وحدة المجتمع الاجتماعية (وفق تحليل فؤاد شبل في كتابه «توينبي مبتدع المنهج التاريخي الحديث»). والحال ان نظرية توينبي قد جوبهت بالعديد من ضروب الانتقاد، ولقد طاول النقد أساساً غموض تحديده لمفاهيم مثل «الحضارة» و «الثقافة» و «المجتمع» اضافة الى مغالاته في استخدام النموذج الإغريقي في سبيل دراسته تواريخ الحضارات وأفولها، واستخدامه للأساطير والاستعارات بوصفها عناصر يمكن مقارنتها، وعن جدارة، بالمعطيات الواقعية. علماً بأن توينبي ومنذ الحرب العالمية الثانية حرقف دائرة اهتمامه ومركز الثقل في نظريته من عالم الحضارات، الى عالم تواريخ الأديان معتبراً ان الأديان هي التعبير الأمثل عن الحضارات.
مشاركة :