إعداد: عبير حسين تستعيد الذاكرة اليوم وقائع أسوأ كارثة للتسرب الإشعاعي والتلوث البيئي شهدتها البشرية حتى الآن، والتي صنفت «كارثة نووية» من الدرجة 7، ووضعت العالم للمرة الأولى أمام نموذج مصغر لعملية تلوث إشعاعي عابر للحدود، وتجربة محاكاة لما يمكن أن ينشأ عن الحروب النووية من دمار للمنشآت وتلويث للبيئة وإزهاق للأرواح وإشاعة للتشوهات الخلقية والأمراض التي تنتقل من جيل إلى جيل. وليصادفنا في مثل هذا اليوم من العام 1986 وقوع كارثة التسرب الإشعاعي من المفاعل النووي السوفييتي «تشرنوبيل» التي مازالت آثارها باقية حتى الآن على الرغم من مرور 31 عاماً، لتكون ذكراها السنوية «ناقوس خطر» يدق محذراً من مخاطر تكرارها وسط عالم ينتشر فيه أكثر من 400 مفاعل نووي.بدأت كارثة التسرب الإشعاعي في القسم الرابع من مفاعل محطة تشرنوبيل بالقرب من مدينة «بريبيات» في أوكرانيا التي كانت وقتها إحدى جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق عند إجراء الخبراء بالمحطة تجربة لاختبار أثر انقطاع الكهرباء عليها، وأدى خطأ في التشغيل بعد إغلاق توربينات المياه المستخدمة في تبريد اليورانيوم المستخدم وتوليد الكهرباء إلى ارتفاع حرارة اليورانيوم بالمفاعل الرابع إلى درجة الاشتعال.وتسبب هذا في انصهار قلب المفاعل الرابع وحدوث انفجارين كبيرين أعقبهما اشتعال النيران بكثافة، وارتفعت المواد المشعة إلى السماء لمسافة كم، وخلفت الانفجارات والحرائق سحابة قاتلة من الإشعاعات النووية انتشرت على الفور في أجواء أوكرانيا وجارتيها روسيا البيضاء وروسيا. بعد ذلك تجزأت سحابة الإشعاعات النووية إلى ثلاث سحابات أخرى ساعدت الرياح في حملها إلى بولندا والدول الإسكندنافية والثانية إلى التشيك ومنها إلى ألمانيا والثالثة إلى رومانيا وبلغاريا واليونان وتركيا.المثير أن السلطات السوفييتية لم تعلن عن الحادث عند وقوعه ولم يعرف عنه العالم شيئاً إلا بعد رصد أجهزة مراقبة الإشعاع في المحطة النووية السويدية لتوليد الطاقة في مدينة فورس مارك الواقعة شمالي استوكهولم العاصمة ارتفاع نسب الإشعاع وتبين بعد التحقيق أن الإشعاع المرتفع قادم من جنوب شرقي المنطقة، حيث مفاعل تشرنوبيل، وعلى الرغم من طلب السويد رسمياً من السلطات الروسية التعرف إلى مصدر الإشعاع، إلا أن الأخيرة أنكرت معرفة السبب ولم تضطر إلى الإعلان عن «كارثة» التسرب الإشعاعي إلا بعد وقوعها بعدة أيام، وبعد تأكد عجزها عن مواجهة التبعات القاسية الناتجة عنه.أدى الانفجار المباشر بالمفاعل إلى مقتل أكثر من 33 شخصاً وإدخال نحو 300 آخرين المستشفيات نتيجة تعرضهم لجرعات عالية من الإشعاع إذ كانت النسبة قد ارتفعت إلى أكثر ب 200 مرة من الإشعاعات التي نتجت عن إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما وناجازاكي بنهاية الحرب العالمية الثانية، وارتفع عدد الضحايا بعد ذلك ليصل إلى أكثر من 10 آلاف شخص. لم تتوقف الخسائر البشرية عند عدد الوفيات، لكنها استمرت لسنوات طويلة عبر إصابة عشرات الآلاف بأمراض ناتجة عن التعرض للإشعاع منها أنواع متعددة من السرطانات أهمها الغدة الدرقية، وسرطان الفم، وسقوط الشعر، والحروق الجلدية، إضافة إلى أمراض الكبد والكلى، والأمراض الناتجة عن ضعف الجهاز المناعي.طالت الآثار الكارثية للتسرب الإشعاعي تلوث المياه عبر المواد المشعة التي حملتها سحب الأمطار، إضافة إلى نفوق عدد هائل من قطعان الماشية، كما تأثر نحو مليوني هكتار من الأراضي الزراعية المجاورة لموقع التسرب، واضطرت الحكومات الأوروبية إلى إعدام ملايين الأطنان من الخضراوات والفاكهة خوفاً من تسرب الإشعاع إليها. وقدرت تكاليف إجلاء سكان المناطق الواقعة بالقرب من موقع الكارثة حوالي 400 مليار دولار في الاتحاد السوفييتي فقط، كما تكبدت الحكومات الأوروبية حينها تعويضات باهظة للمزارعين ومنتجي الألبان بسبب خسائرهم الاقتصادية.
مشاركة :