في أن لا حل طائفياً لمشكلة الطائفية

  • 4/29/2017
  • 00:00
  • 32
  • 0
  • 0
news-picture

على رغم انقضاء سنوات في البحث والجدل بغية صوغ قانون انتخابي تتمثل من خلاله كل المكونات الطائفية للمجتمع اللبناني تمثيلاً عادلاً وواقعياً، لا يبدو أننا إزاء حل ينهي القلق على مستقبل الديموقراطية في لبنان ويبدّد الخوف على أمنه والتئام فئاته وطوائفه في بوتقة وطنية ثابتة. وجه الإشكال في هذه الأزمة المستعصية أن الصراع كان ولا يزال يدور في سياق العلاقة المتوترة بين «الخوف» و «الغلبة» في مجتمع لم يتأطر مدنياً ولم يصل بعد إلى الاندماج الوطني الجامع. من جهة يخشى المسيحيون على وجودهم ودورهم في مـــوازاة تراجـــعهم ديموغرافياً في لبنان والمنــــطقة، ومن جـــهة أخرى يتضخّم الإحــساس بالغلبة والهيمنة لدى الطوائف الإسلامية جرّاء يقظة وصعود أصولياتها بخطابها الإلغائي ومنحاها الاستئصالي. وهكذا القول إن ليس ثمة «مشكلة مسيحية» في لبنان ما هو إلا تعام عن الواقع والتاريخ وتجاهل لحقيقة التحولات منذ انهيار الحركات القومية وصعود الحركات الأصولية المتشددة في العالم العربي والإسلامي. فقد طرحت هذه الحركات ولا تزال تطرح على المسيحيين، وفي شكل متفاوت الحدة والحسم، أسئلة الوجود والبقاء والدور والمستقبل. الأمر الذي لم يعرفه هؤلاء حتى في زمن العثمانيين الذين عملوا على استيعاب الأقليات الطائفية من خلال نظام الملل. وليس معقولاً ولا واقعياً ألا يتوقف المسيحيون أمام التحولات الجارية منذ الربع الأخير من القرن الماضي حيث راحت تتكوّن رؤية أصولية متشددة رافضة للآخر ومهددة في الصميم للمختلف الديني والمذهبي والعقائدي، فيما تشير الإحصاءات في النزوح الكثيف للمسيحيين من المنطقة، والاستهداف الممنهج لقراهم وكنائسهم فضلاً عن تعرضهم للاعتداء مادياً ومعنوياً، حتى أن بطاركة الشرق الكاثوليك دقوا منذ سنوات نفير الخطر على الوجود المسيحي في الشرق مع بقاء أقل من 10 ملايين مسيحي في العالم العربي بين أكثر من 300 مليون من الديانات الأخرى. على هذه الخلفية يجب أن يُقرأ الإشكال الراهن في التوصل إلى قانون انتخابي في لبنان، فثمة شرخ أيديولوجي عميق بين الطوائف اللبنانية على كل المستويات السياسية والاجتماعية والفكرية. ليس ثمة اتفاق على مفهوم الدولة الذي لا يزال في إطار فكرة الدولة التوافقية على أساس اقتسام الحصص والمنافع بين ملوك الطوائف. وليس من اتفاق على العلاقة القائمة أو التي يجب أن تقوم بين السياسة والشريعة، كما لا اتفاق كذلك على علاقة الوطن بالطائفة أو علاقته بمحيطه العربي والإقليمي. وهكذا تضيع كل الأفكار والاعتبارات والمواقف، فلا توافق على تاريخ لبنان ولا على هويته ودوره وانتمائه الحضاري. الأمر الذي قاد إلى التباس الرؤى السياسية وانعكاس ذلك على «حوار الطرشان» الدائر راهناً، والذي لم يؤد حتى الآن إلا إلى المزيد من الشرخ في الرؤى والتصورات، حيث يتم طرح أفكار انقسامية استعبادية للآخر، تركز على أحادية الهوية الطائفية من دون أية هوية سواها، لتتقدم في هذا الإطار القاتم فكرة «القانون الأورثوذكسي» واختيار كل طائفة نوابها، مع ما في ذلك من استعادة بائسة لنظام الملل العثماني وارتكاس إلى ما قبل العقد الاجتماعي والمجتمع المدني. إلا أن ثمة خللاً بنيوياً يعتور مثل هذه الطروح بتركيزها المخل على انتماء واحد للبناني الفرد المتعدد الانتماءات، واختزاله تالياً ببعد واحد، وتجاهل أو إقصاء كل أبعاده الأخرى والقواسم المشتركة التي تجمعه مع أنداده من اللبنانيين. بهذا الاختزال ينخرط في علاقات عدائية مع الآخر بدل الانخراط في علاقات تعاونية إزاء المشاكل المشتركة، الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والإنسانية. ما لا يلبث أن يمهد للنزاع الأهلي بين الجماعات المختلفة، ولنزاع آخر بين الفرد ومجتمعه، وبين مكونات هذا المجتمع ذاته، ما يحيله إلى حلبة صراع متماد. ولنا من عبر التاريخ ودروسه ما يؤكد هذا المآل. فالقهر والاضطهاد مورسا ضد المنتمين إلى الجماعة الطائفية كما مورسا ضد الطوائف الأخرى، وفي محن الأحرار الذين خرجوا على الأيديولوجيا السائدة دليل ساطع على أن الحل الطائفي يقود إلى دكتاتورية الطائفة على مكوناتها الفرعية وأفرادها، وليس إلى تقدم المجتمع نحو الحرية الحقيقية. لقد عانى مسيحيو لبنان ومسلموه على السواء على يد جماعاتهم حين استتبت لها قيادة مجتمعاتها والتحكم بها في غياب دولة وطنية راعية لحرية الأفراد والجماعات. ألم يأتِ الظلم والقهر في كل طائفة من المتحكمين بمقدراتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؟ وهل اهتم هؤلاء بمحن وعذابات أندادهم في الطائفة؟ هل قلقوا إزاء هجرتهم وتشردهم وبؤسهم؟ عليه نرى أن لا حل طائفياً للمشكلة الطائفية في لبنان، وأنه على الذين لا يزالون يدورون في عنق الزجاجة بحثاً عن حلول طائفية للمشكلة أن يخرجوا من تصوراتهم الطائفية المدفوعة بعامل «الخوف» أو بعامل «الغلبة» والتطلع إلى الهموم الكبرى للمجتمع اللبناني بأسره. سوى ذلك ليس إلا تأبيداً للمشكلة، أشبه ما يكون بالانتحار الجماعي.     * كاتب لبناني.

مشاركة :