تشكلات الفكر الصحوي أخذت تشغل الدارسين في شتى الحقول التي تُعنى بفهم سلوكيات الإِنسان ومدى تأثره بالتيارات الفكرية المحيطة به اجتماعيًا، وبدت المؤلفات الحديثة أكثر دقّة في تشخيص ما يُعرف بمرحلة الصحوة التي تبلورت في أجل صورها منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، بفعل ظروف ثقافية ودينية واجتماعية وسياسية مهدت لنشوئها كبديل للفكر القومي العروبي. المجتمعات العربية لم تعرف صحوة واحدة، وإنما لكل مجتمع صحوته المتوائمة مع طبيعته الثقافية والفكرية، ونزعة أفراده إما نحو الانفتاح أو الانغلاق، لذا فإنَّ مرحلة الصحوة في المجتمع السعودي كان لها ما يميّزها عن الصحوات الأخرى، وإن كانت نتاجًا لمنظومة أفكار وافدة من مصر وسوريا إبان اتجاه عدد من الرموز الدينية إلى العيش في المملكة، هربًا من اضطهاد حكومات بلدانهم آنذاك، وتوليهم مناصب قياديّة في السلك التعليمي، وتحديدًا في الكليات الشرعية بالجامعات السعودية. وفي مؤلَّف «صحوة العقل بعد الصحوة» للكاتب السعودي محمد علي عسيري سرد مفصّل عن التحولات الفكريّة التي طرأت على المجتمع منذ أن ساد الفكر الصحوي، ليطرح العديد من التساؤلات حول أثر ذلك على حالة الركود الفكري، وانتشار التوجس المقلق بين الأفراد والجماعات، منطلقًا من فكرة الاستشهاد بالأحداث والوقائع المعاشة كبرهان عقلي يؤكد حجم التغيرات الهائلة التي طالت البنية الاجتماعية، والتي انعكست بدورها على فاعليّة المؤسسات الثقافية والدينية والتعليمية، التي استجابت لظروف المرحلة ومنعرجاتها. «لماذا التغيير؟»، هو أحد التساؤلات الكبرى التي يطرحها الكتاب، ليؤسس المؤلّف مشروعيته في النقد والتقويض، كجزء من الحراك الفكري المنتظَر، أي ذلك التغيير الرافض للركود والنمطية واجترار الموروث، والمؤسس لمواكبة النمو المعرفي الإِنساني المتجاوز لحدود المقاربات الصحويّة التي لا تزال مقيّدة برؤى ماضويّة تحارب التجديد لمجرد أنه لم يكن معهودًا لدى الأزمنة السالفة. وتحدث الكتاب بإسهاب عن ظاهرة تزايد أعداد الوعاظ في مجتمع مسلم، وانتشارهم بطريقة تثير القلق، وتحديدًا عندما اتجه إلى الوعظ فئة لا تمتلك تأهيلا علميًا وشرعيًا كافيًا لأداء تلك المهمة العسيرة، ما أنتج خطبًا وعظية كارثيّة وغير متسامحة، لتكون العنوان الأبرز في مرحلة الصحوة غير المنضبطة والتي لا تمتلك سلطة فعليّة تردع أتباعها، بل كانت تبارك أي صنيع وعظي دون أن تقيم وزنًا للأثر السلبي الذي أحدثته تلك الفوضى الوعظية في تكوين المجتمع نفسيًا واجتماعيًا. وكانت المرأة حاضرة بقوّة في الكتاب، والذي سلط الضوء على وقوعها بين كماشتين، الأولى تتمثل في العادات والتقاليد الجاهلية، والثانية برزت مع التشدد الديني والخطاب الصحوي، منطلقًا من طرائق طرح أسئلة الفتاوى التي تُعنى بقضايا المرأة والتي لا تخلو من إلصاقها بالحملات والدعاوى التغريبية لتوجيه المفتي نحو التحريم ليس لعلة شرعية، وإنما لإجهاض ما وصف بالمساعي الغربية والتي تستحضر صورة نمطية تفترض غاية التأسيس للانحلال الأخلاقي والقيمي للمجتمع. وتغنّى المؤلف بحالة المجتمع السعودي قبل الصحوة والذي وصفه بمجتمع يفوح منه عطر التقارب والتآلف والتراحم، وكانت الأغاني الشعبية تصدح في زوايا البيوت والحارات والقرى والمزارع، وعلى أنغامها تُصنع الحرف اليدوية ويُخرف التمر من النخيل، ولم تكن فيه المرأة أم القضايا، بل كانت تمارس دورها الاجتماعي بحشمة وشرف ودون أي توجس منها أو من الآخر. كتاب «صحوة العقل» يمثّل خطوة جريئة في نقد وتشخيص موجة الصحوة التي لا تزال تبعاتها حاضرة في المجتمع السعودي، وإن كانت حدة وتيرتها قد تراجعت كثيرًا عما كانت عليه في تسعينيات القرن الماضي، وستظل الحركة النقدية في المملكة مطالبة بالمزيد من المؤلفات لكشف مضمرات الخطاب الصحوي، لتهيئة الظروف الفكرية والمعرفية المنسجمة مع تحولات المرحلة الراهنة وتحديات الحاضر والمستقبل.
مشاركة :