محمود الريماويالأزمة حول الصواريخ الكورية الشمالية لا تنقصها الجدية أبداً. فالطرفان في بيونج يانج وواشنطن يتبادلان التهديدات لا مجرد كيل الاتهامات. وواشنطن تسيّر قطعات عسكرية متطورة في غرب المحيط الهادي، بينما لا يتردد الزعيم الكوري بالقول إن أمريكا عُرضة للتحول إلى رماد، إذا ما اعتدت على بلاده.ومن يرجع قليلاً إلى الوراء يكتشف أن كوريا المقسمة بين دولتين في الشمال والجنوب، تعاني أزمة انقسام وانفصام مردها أن دولتي الشمال والجنوب هما إحدى ثمار الحرب الباردة، وتقاسم النفوذ بين أمريكا والاتحاد السوفييتي منذ منتصف القرن الماضي، حيث خضعت الدولتان بصور متفاوتة لنفوذ الجبارين، غير أن تقسيم البلاد وتركة المستعمر الياباني أشعلت حرباً بين الكوريتين امتدت لثلاث سنوات وأزهقت أرواح نحو مليون كوري.ورغم انتهاء الحرب الباردة منذ أواخر ثمانينات القرن الماضي، إلّا أن لا شيء تم فعله من أجل التقريب بين الكوريتين أو تبريد الخلافات بينهما، باستثناء برنامج لم شمل الأسر. وخلال العقود الستة الماضية تكرس كيانان سياسيان في الشمال والجنوب، وحقق الشطر الجنوبي تقدماً اقتصادياً وصناعياً هائلاً، بينما أنجز الشطر الشمالي تقدماً عسكرياً كبيراً، ولكن على حساب قوت شعبه.أجل انتهت الحرب الباردة، ولكن الصراع على النفوذ لم يتوقف. واشنطن ترى في تضخم القدرات العسكرية، بما فيها النووية لكوريا الشمالية، خطراً عليها (من المفارقات أن جيش كوريا الشمالية هو من أكبر الجيوش في العالم، وبتعداد يناهز 8 ملايين جندي). أما روسيا والصين فتريان أنه مطلوب الحد من القدرات النووية لهذا البلد من دون أن يعني ذلك تحجيمه. وتحذر الصين كما روسيا من قرع طبول الحرب التي سوف تشكل لو وقعت كارثة سوف يتردد صداها في العالم كله، وسوف يُضار بلدان قريبان هما كوريا الجنوبية واليابان، علاوة على روسيا والصين. ولا أحد يماري في أن كلفة الحرب باهظة. إن القيادة في كوريا الشمالية بطابعها الفردي المتسلط، لن تتوانى عن السعي إلى تحقيق مجد عسكري، ولو أدى ذلك إلى خسائر باهظة، فيما ترغب واشنطن في البرهنة على أنها الطرف الوحيد أو الأول، على الأقل، الذي بوسعه كبح جموح بيونج يانج. وكان مجلس الأمن قد عقد في العام الماضي حسب تلخيص الأمين العام أنطونيو جوتيريس 11 جلسة طارئة، وأصدر قرارين يدينان التجارب الصاروخية والنووية، لكن بيونج يانج مضت على هذا الطريق. والآن فإن بيونج يانج تتعهد بوقف أنشطتها النووية من أجل نزع فتيل الأزمة، وهو تعهد لا تثق به واشنطن وأطراف دولية أخرى.فيما تدعو كل من بكين وموسكو إلى التفاوض كسبيل وحيد لإنهاء الأزمة، وتميل الصين لانتزاع تعهدات تتعلق بمجمل الترسانة النووية من بيونج يانج من أجل تمهيد الطريق إلى التفاوض. وهو بغير شك، الحل المنطقي والبديل الأفضل لمواجهة مدمرة.على أنه من الواضح أن تهيئة الظروف للتفاوض هي بأيدي الكبار الثلاثة: أمريكا والصين وروسيا. فإذا ما توافقت هذه الأطراف على خطوط حل ما، فإنه يسهل حمل بيونج يانج على قبوله، فالصين هي الطرف الدولي الوحيد تقريباً الذي يدعم كوريا الشمالية بالأغذية، ومع ذلك فإن شبح المجاعة يهدد سكانها (24 مليون نسمة، مقابل ما يزيد على 50 مليون نسمة في كوريا الجنوبية). وقد وافقت على قرار لمجلس الأمن في 19 إبريل/نيسان الجاري يدين التجارب الصاروخية، بينما عرقلت موسكو اتخاذ القرار.المفاوضات لن تكون سهلة، فكوريا الشمالية تسعى للاعتراف بها كدولة نووية، وتطالب بإزالة القواعد الأمريكية من كوريا الجنوبية. وتبدو الصين ميالة لممارسة ضغوط غير عسكرية على بيونج يانج، علماً بأن أية عقوبات اقتصادية قد تؤثر سلباً على السكان. ومغزى ذلك كله أن مفتاح الحل يكمن في أيدي بكين وموسكو. فهاتان العاصمتان بما يتمتعان به من نفوذ سياسي كبير على بيونج يانج مدعوّتان إلى إجراء ما يشبه التفاوض مع القيادة الكورية الشمالية لحملها على الحد من مطامحها النووية، مع تعويضها بما يلزم لتطوير اقتصادها وفك عزلتها الدولية والتقريب بينها وبين سيئول، وإزالة الحواجز بين الشعب الواحد المقيم في دولتين. ولا يكفي أن تواظب موسكو وبكين على ترديد أن الحل يكمن في التفاوض والحوار، إذ يتعيّن أن تتقدما معاً أو كلٌ منهما على انفراد لبذل جهود باتجاه واشنطن وبيونج يانج، لوقف مفاعيل الأزمة، وتهيئة الأرضية اللازمة لإجراء حوار مثمر يفضي إلى تفاوض جدّي. وألّا تطغى حسابات النفوذ والمصلحة في ظل استمرار الأزمة، على مقتضيات إحلال الأمن والسلام في شبه الجزيرة الكورية، وعلى موجبات نزع فتيل الأزمة قبل أن يتسرب الإشعاع النووي إلى هذين البلدين، في حال انفجرت الأزمة وجرى استخدام أسلحة دمار شامل. mdrimawi@yahoo.com
مشاركة :