معروف عادة أن نوعين من أنواع الرواية، على الأقل، كانا من «ابتكارات» العقود الأولى من القرن العشرين: رواية تيار الوعي التي تدين تماماً لجيمس جويس وفرجينيا وولف بين آخرين، والرواية التجريدية التي يبدو مستحيلاً إحصاء الكتّاب الذين ساهموا في بداياتها لكنهم جميعاً من الذين نشطوا في ذلك القرن موصلينها الى نوع من سوريالية تنوعت مشاربها. غير أن الإنصاف يقتضي منا أن نعزو النوعين معاً الى كاتب نرويجي، صحيح أنه كتب معظم أعماله في القرن العشرين، لكن بداياته التجديدية التأسيسية كانت عند بدايات العقد الأخير من القرن التاسع عشر. وبالتحديد في رواية له لم يستطع هو نفسه تخطّيها على كثرة ما كتب. نتحدث هنا عن كنوت هامسن وروايته «الجوع» التي صدرت في العام 1890 لتتخذ مكانتها على الفور لدى القراء في عدد كبير من لغات تُرجمت اليها، ولدى الباحثين والنقاد الذين حللوها بدقة باعتبارها تنتمي الى حداثة لا سابق لها وبالتالي تؤسس لأكثر من تيار ونوع. > للوهلة الأولى، تبدو «الجوع» كرواية تدنو من السيرة الذاتية وبالتالي يصعب العثور على حدث مركزي فيها. هي أشبه بيوميات منتزعة من الحياة البائسة التي عاشها الكاتب نفسه - إنما من دون أن تكون متطابقة كلياً مع تلك الحياة. فـ «بطل» الرواية صحافي شاب يعيش كل أنواع البؤس في مدينة كريستيانا - وكان هذا اسم أوسلو في ذلك الحين - عاصمة النروج. إنه يعمل في الكتابة ولكن من دون موقع منتظم. كل ما في الأمر انه يكتب مقالات يتمكن من بيع بعضها بين الحين والآخر الى صحف تنشرها، مكافئة الكاتب بفتات المال ما يمكّنه من أن يدفع إيجار غرفة بائسة في فندق أكثر بؤساً وبعض طعام بالكاد يمكّنه من أن يتحمل الجوع. بالنسبة إليه، وكما يقول لنا عنوان الرواية، الجوع هو همّه الأساسي. والجوع هو الموضوع الذي يشغل فصول الرواية وصفحاتها موصوفاً من الداخل بكل تفاصيله وآلامه ولا نهائيته. وبإلحاحه على ذلك الشاب الذي أمام جبروت الإحساس به، لا يعود مهتماً بأن تتركه امرأة أقام معها علاقة عابرة أو تطرده صاحبة الفندق إن لم يسدد إيجار الغرفة. هذا الجوع هو الذي يقوده ذات يوم الى أن يعمل بحاراً ويترك المدينة. ولكن هل هو مهتم حقاً بهذه المدينة؟ هل تراه يشعر بأي انتماء حقيقي اليها؟ أبداً بالتأكيد. ولعل هذا بالتحديد ما ينفي عن «الجوع» ما وُصفت به من كونها رواية ذات نزعة «طبيعية» تسير على منوال أدب إميل زولا. فالحقيقة أن كنوت هامسن، وعلى عكس زولا تماماً، لا يبدي أدنى اهتمام بطوبوغرافية المدينة وتفاصيل الحياة فيها أو بالسكان الآخرين، ولا حتى برسم أية علاقات بين بطله/أناه/الآخر والجيران أو المعارف. لا شيء من هذا في الرواية. > كل ما في «الجوع» هو الجوع نفسه وما ينتج منه على الصعيد المعنوي والسيكولوجي كما على الصعيد الجسدي. وبالتالي فإن الرواية، أكثر مما تتابع حياة بطلها وتنقلاته، تتابع جوعه. ذلك المحرك الجوّاني والبرّاني لحياته اليومية. والحقيقة أن ما من كاتب آخر، من الكبار على الأقل تمكن من أن يجعل للجوع هذه البطولة في عمل أدبي يطل فيه الجوع في كل صفحة وسطر، ولكن ليس فقط كحالة تجابه الجائع فتخلق له هلوساته وأحزانه، بل كذلك كعدو داخلي تتعين مقارعته ربما لإلحاق الهزيمة به وربما للتمكن من التعايش معه. والحال أن على المرء أن يقرأ سيرة حياة متكاملة أخرى لكنوت هامسن كي يعرف كيف انتهى ذلك الصراع بينه وبين الجوع، وذلك بالنظر الى أن «الرواية» نفسها تترك النهاية مفتوحة الى حد كبير. فإذا أضفنا الى هذا أن سمات البطل ليست محددة في الرواية تماماً - ما يحيلنا بدوره الى حداثة الرواية - نجد لزاماً علينا التحول الى سيرة كاتبها بعد الفروغ منها. > ولنبدأ هنا من النهاية، فهامسن كان يقارب التسعين من عمره حين انهزم الألمان الذين راهن عليهم كثيراً، وكان قبل ذلك بشهور قد قبل بأن يمثل بلاده، وبالتحديد حكومة بلاده الموالية للنازيين، خلال مؤتمر الصحافيين العالمي في فيينا. من هنا حين سقط النازيون، وسقطت حكومة بلاده المناصرة لهم، كان من الطبيعي لكنوت هامسن أن يحاكم بتهمة مناصرة النازيين، والخيانة العظمى بالتالي، غير أن المحكمة لم تحكم عليه بالسجن أو بالإعدام بل بدفع مبلغ 325 ألف كورون كغرامة. صحيح أن هذا المبلغ كان يعادل كل ما جمعه هامسن من ثروة وأملاك طوال حياته، لكنه دفعه صاغراً راضياً هو الذي كان يعتقد أن مصيره سيكون أسوأ من ذلك بكثير. أما السبب الذي جعل المحكمة تكتفي بتغريمه نقوداً، فكان خبله العقلي، اذ اعتبر كنوت هامسن التسعيني في ذلك الحين مجنوناً. > غير أن «جنونه» لم يمنعه من أن يكتب في العام 1949 واحداً من أجمل نصوصه غير الروائية: «عبر الدروب التي ينمو فيها العشب» وهو النص الذي صالـحه مع الوطن وأتى كتكفير عن ماضيه النازي، وجعـــل له شفاعة حتى رحيله في وطنه في العام 1952. وكنوت هامسن، مثل الفرنسي لوي - فردينان سيلين والأميركي إزرا باوند، كان من الكتاب الكبار الذين اقتنعوا بالنازية وبالفاشية، لسبب أو لآخر، والطريف أن الجنون كان هو الذي واكب سنوات حياتهم الأخيرة. فهل في الأمر صدفة، أم انه قدر مرسوم ومنطقي؟ > سؤال لا مجال للإجابة عنه هنا. هنا فقط نحاول أن نرسم الخطوط الرئيسية لحياة ذلك الكاتب النرويجي الكبير الذي يمكن، بأي حال من الأحوال، اعتباره واحداً من كبار الكتاب الذين عرفهم العالم في القرن العشرين، بل ولربما كان من شأن هامسن أن يشغل مكانة متقدمة في الصف الأول لولا حكاية افتتانه بالنازية. وكانت قيمة هامسن الأدبية قد اكتشفت قبل ذلك، بكثير، منذ روايته الكبيرة الأولى «الجوع» التي كان حين نشرها في الحادية والثلاثين من عمره، ليجعل حوادثحا الهذيانية تدور في مدينة كريستيانا، وتتحدث، ما أشرنا عن «شخص» يمتصه الجوع ويدفعه الى الجنون والهذيان. ولقد رأى فيها الكثيرون ملامح من سيرة هامسن الذي عاش، بالفعل، كل ضروب الجوع والحرمان في النروج عند طفولته وصباه، ثم في الولايات المتحدة التي مارس فيها عشرات المهن من دون أن يفلح في واحدة منها. بل يروى انه طرد من عمل كان يقوم به كجاب في القطار، لأن المفتش قبض عليه وهو يقرأ مسرحية ليوريبدس، بدلاً من أن يجبي النقود من الركاب. > المهم، أن رواية «الجوع» حققت فور صدورها نجاحاً كبيراً، جعل هامسن يكتب بلا انقطاع بعد ذلك، ويعثر على من ينشر له من دون صعوبات، وظل ذلك دأبه حتى العام 1920 حين فاز بجائزة نوبل للآداب، وكان من أبرز الروايات التي نشرها قبل ذلك «أسرار» التي يقوم ببطولتها أفاق عاشق للطبيعة، مناصر للبيئة، وهي الشخصية التي نجدها في أعمال كثيرة لهامسن بعد ذلك، ما يجعله، بحق، واحداً من أوائل الكتاب الرواد في مجال الدفاع عن البيئة. وبعد «الجوع» خلال تسعينات القرن التاسع عشر، نشر هامسن عدة نصوص غير روائية منها واحد عن الحياة الثقافية في أميركا، كما نشر من الروايات «بان» و «الشريد يعزف صامتاً» و «تحت نجوم الخريف». > عندما أطل عليه القرن العشرون، كان هامسون قد أضحى كاتباً معروفاً ومعترفاً به، وراح القراء والنقاد يقبلون على أعماله من دون تردد، حتى وإن كان بعض النقاد الحديثين قد بدأوا يجدون فيها تقليدية، وأحياناً تقليداً للفرنسي إميل زولا. مهما يكن، فإن هامسن ما بعد نوبل، كان غير الكاتب الذي كانه قبلها، فلم يعد أدبه يحمل تلك السمات التي جعلته عند منعطف القرنين، الكاتب المرجع، وجعلت اسحاق باسفيتش سنجر يقول عنه، بعد ذلك بزمن طويل «إن مجمل المدرسة الروائية الحديثة في العالم خلال القرن العشرين يبدو لي وكأنه متحدر من كتابات كنوت هامسن». وبقي ان نذكر في الختام ان العديد من روايات هامسن قد ترجم الى العربية، في مصر، ونشر خلال النصف الأول من القرن العشرين، قبل ان يطوي النسيان ذكراه بعد ذلك.
مشاركة :