غداً تبدأ زيارة الرئيس أبو مازن إلى واشنطن، زيارة في حد ذاتها تعني أن القضية الفلسطينية ما زالت لها مكانة مميزة في نظر أهم وأقوى دولة في العالم، ففلسطين بحدودها الدنيا المعترف بها دولياً (ضمن حدود عام 67) مازالت تحت الاحتلال من قبل الدولة الأوثق صلة بالولايات المتحدة (دولة إسرائيل) التي هي بالمفاهيم الاستراتيجية ووفق المصطلح الذي راج خلال فترة حكم الرئيس رونالد ريغان في ثمانينات القرن الماضي أرخص حاملة طائرات أميركية في العالم. ولكنها أيضا وبحكم وجود اللوبي اليهودي الأقوى في أميركا وشريكه اللوبي المسيحي الصهيوني هي قضية داخلية أميركية يتجدد دعمها والتذكير بأهميتها الاستراتيجية للولايات المتحدة في كل انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة. لذلك كل رئيس أميركي سواء أكان ديمقراطياً أم جمهورياً، سواء أكان فوزه بدعم من اللوبي الصهيوني أم لم يكن كذلك يحاول وبكل قوة قبل فوزه وبعده أن ينافس من سبقوه في تقديم الوعود ومن ثم الدعم السخي وغير المسبوق للكيان الصهيوني. هذا بالإضافة للبعد الديني اللاهوتي غير الخفي في السياسة الخارجية الاميركية تجاه الشرق الأوسط والذي يُختصر في بعض عبارات قالها رؤساء أميركيون سابقون، أحدهم بيل كلينتون يوم كان رئيساً وهي أن كاهنه قال له: "أن بركة أميركا من الرب مصدرها دعم أميركا لإسرائيل". أما جورج بوش الابن فقد أدعى أن الرب خاطبه مباشرة ليوصيه بتدمير العراق خدمة لبقاء وازدهار إسرائيل. ولم يتغير شيء في السياسة الخارجية الاميركية تجاه إسرائيل مع وصول أول رئيس أميركي من أصل أفريقي، والده مسلم أسمه حسين، فقد كان أوباما أكثر الرؤساء الأميركيين كرماً مع إسرائيل رغم استهزاء زعماء اليهود به ورغم تحريضهم عليه ورغم محاولات إذلاله من قبل نتنياهو عندما لوى ذراعه مرات عدة من خلال اللوبيات الحليفة لإسرائيل. ربما ما ميز أوباما عن غيره من رؤساء أميركا السابقين هو حرصه الشديد على إسرائيل، فقد كان مقتنعاً أنه إسرائيلي أكثر من اليهود أنفسهم، حيث حاول وإدارته إحداث بعض التغييرات غير جوهرية في أسلوب التعاطي مع إسرائيل بما رأته إدارة أوباما دعماً استراتيجيا لها (لإسرائيل) وضمان لمستقبلها، حيث ضغطت إدارة أوباما في بعض الأحيان على حكومة نتنياهو كونها حكومة متطرفين عنصريين، لحماية إسرائيل من نفسها، بالتخفيف من سياستها العنصرية وعدوانيتها التي تجاوزت كل الحدود في ضرب القوانين والأعراف الدولية عرض الحائط، عبر ارتكابها جرائم الحرب والعدوان والجرائم ضد الإنسانية مما جعلها تفقد الكثير من مواقف الأصدقاء الداعمين لها أو بتعبير أدق جعلت هؤلاء الأصدقاء أقل انحيازا لها في المحافل الدولية عما كانوا عليه قبل هذه الحكومة. ثقة إدارة أوباما بأن الحل الأمثل لإسرائيل هو حل الدولتين والخشية أن يتم تجاوزه من خلال الإجراءات الإسرائيلية الاستيطانية والذي ينعني الاستمرار بها تكريس حل الدولة الواحدة دولة الابرتهايد والفصل العنصري والتي لن يقبل بها العالم اليوم، ومثل هذه الدول معروفة النهاية وفق النموذج الأميركي قبل الحرب الأهلية أو وفق النموذج الجنوب إفريقي، هذه السياسة الاستيطانية المدمرة جعلت إدارة أوباما تدق ناقوس الخطر لدى اللوبيات اليهودية والعقلانيين اليهود الممثلين بأحزاب اليسار والوسط في إسرائيل. وكان الموقف الأخير لإدارة أوباما في مجلس الأمن بالامتناع عن التصويت وإتاحة صدور القرار 2334 الذي كرر مطالبة إسرائيل بأن توقف فورا وعلى نحو كامل جميع الأنشطة الاستيطانية في الأرض الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية، هو أقصى ما وصلت إليه الإدارة الديمقراطية في ضغطها على إسرائيل من أجل الإبقاء على حل الدولتين في ثلاجة الإنعاش لأن دولة اليهود لا دولة العرب واليهود مجتمعين هو ما أراده المجتمع الغربي والرواد الصهاينة الأوائل أن تكون عليه هذه الدولة، لا أن تجعل السياسة المتطرفة والحمقاء من قبل حكومة نتنياهو ومتطرفيه نهاية للحلم الصهيوني، وهو ما عبر عنه جون كيري وزير الخارجية الاميركية بقوله مخاطباً الإسرائيليين: "أمامكم خياران، دولتان لشعبين، أو دولة واحدة لشعبين ولكنها (أي الدولة الواحدة) يجب أن تكون دولة ديمقراطية دولة مساواة في الحقوق لا دولة تمييز عنصري وأبارتهايد فالعالم لن يقبل بمثل هذه الدولة." ولكن إدارة الرئيس دونالد ترامب والتي تُعتبر حكومة مستوطنين يهود متطرفين في بعض جوانبها المتعلقة بالسياسة الخارجية الاميركية تجاه قضايا الشرق الأوسط لا ترى ذلك بل تقف على يمين الحكومة الإسرائيلية في مواقفها المتطرفة، حيث فاقت ومنذ أيامها الأولى كل الإدارات الاميركية انحيازا لدولة الكيان الصهيوني، إذ لم يستخدم أحدا في الإدارات الاميركية السابقة وقاحة التعابير الخارجة عن الكياسة واللباقة الدبلوماسية كما استخدمته إدارة ترامب في الدفاع عن إسرائيل وسياساتها، فقد قالت نيكي هيلي مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة في خطابها بالإيباك أن إدارتها لن تسمح بإدانة إسرائيل أو الإساءة إليها في هيئة الأمم المتحدة، وأن ذلك أصبح من الماضي ومن يحاول ذلك سيضرب بالحذاء. هل يعني ذلك أن الساحة التي لطالما نشطت فيها الدبلوماسية الفلسطينية والعربية وحققت فيها انتصارات معنوية أصبحت مغلقة في وجه الفلسطينيين؟ ربما أصبح الأمر أكثر صعوبة ولكن لن تنجح الولايات المتحدة في ذلك بالمطلق. وعليه قد يتم تجميد كل الخطوات الفلسطينية في محكمة الجنايات الدولية وكذلك في مجلس الأمن الدولي بحثاً عن اعتراف أممي يُحول فلسطين من عضو مراقب إلى عضو دائم في الأمم المتحدة خلال الأربعة سنوات القادمة. بل إن ما تنشره الصحافة الإسرائيلية من تسريبات حقيقية كانت أم ملفقة كشروط غرينبلات التسعة وغيرها من المعلومات حول نقل السفارة الاميركية أثناء زيارة ترامب خلال الشهر الجاري تجعل مهمة أبو مازن مهمة صعبة. فعدا أنها زيارة رسمية وبرتوكوليه هامة مع إدارة كانت تشير تصريحاتها إلى قطيعة مع الفلسطينيين، إلا أن اتصال ترامب بأبو مازن عقب لقاءاته مع مبعوثيه إلى الشرق الأوسط أحيت الآمال بأن الحفاظ على مسيرة التسوية ممكن حتى مع هذه الإدارة الأكثر صهيونية. ولكن تبقى هناك مخاوف منطقية إذ قد تحمل نتائج الزيارة نذائر شر تجاه فلسطين ومستقبلها السياسي في ظل عالم مضطرب، إذا ما حاول الرئيس الأميركي فرض شروط قاسية غير قابلة للتنفيذ وطنيا من قبل أبو مازن بعضها نصت عليه شروط غرينبلات المسربة إسرائيليا. إذن وأمام هذه السياسة الأميركية على ماذا يراهن الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وعلى ماذا يعقد الآمال؟ هل هناك معالم لما سُمي من قبل ترامب "صفقة العصر"؟ ماذا يعني هذا المصطلح؟ وماذا يعني "الحل الإقليمي" الذي يقال إنه الحل الذي سيقدمه ترامب للرئيس عباس؟ في الحقيقة لا أحد يعلم يقيناً ماذا تعني هذه المصطلحات بتفاصيلها. ولكن وفق التسريبات ووفق ما بتنا نعرفه من مصادر مختلفة فإن لدى الرئيس الفلسطيني إجابات وحلول لكل ما سيطرحه ترامب وفريقه لذلك أعتقد أن لا شيء يمكن أن يُعكر صفو الزيارة. فالرئيس أبو مازن والفلسطينيون عموماً منفتحون على أي حل يمكن أن يمنحهم حقوقهم بالحد الأدنى المطلوب المعلن والذي يُطلق عليه الثوابت الفلسطينية، فإذا طرح ترامب مبدأ حل الدولتين كخيار سيقابله أبو مازن بالقبول على أساس قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة ومبادرة السلام العربية التي أعاد العرب التأكيد عليها في قمة عمان 2017 مع قابلية التعديل فيما يتعلق بتبادل الأراضي وفق نسب معينة. وإذا تم طرح خيار حل الدولة الواحدة البسيطة أو المركبة فإن الرئيس لن يرفض هذا الحل ايضاً بل سيرحب به (رحب به السيد عريقات وقال تعالوا نتفاوض حوله) ولكن سيطلب إيضاحات حول ماهية هذا الحل وغذى حصل على إجابات مرضية سيقبل التفاوض حول آليات تطبيقه على أن يشمل كل الاراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها قطاع غزة الذي تستثنيه إسرائيل دائماً، وحلا عادلا ومتفقا عليه لقضية اللاجئين الفلسطينيين. وإذا طرح ترامب المشروع الإسرائيلي للحل المتمثل بدولة الكانتونات الثمانية والثلاثين التي تشمل الضفة الغربية مع مناطق الثمانية والأربعين، فإن توقعاتنا رفض الرئيس لصيغته الحالية وسيطالب بتعديله بضم قطاع غزة إليه حيث الأراضي الفلسطينية وفق قرارات الشرعية الدولية واتفاقية أوسلو هي منطقة جغرافية واحدة لا تتجزأ وسيطالب بحل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين وبذلك سينسف هذا الحل وفق القانون الدولي بل ووفق الرؤية الاميركية المتعارف عليها تاريخيا. إذن لما الخشية أو الخوف من فشل الزيارة وعودة الرئيس خائباً من واشنطن؟ الخشية مشروعة وستبقى إلا أن ينتهي اللقاء وتعرف نتائجه ومبعثها أن لا يُقدم ترامب حلولاً بل أن يضع شروطاً وإنذارات للموافقة على انغماسه وفريقه في محادثات السلام وهذه الشروط والإنذارات إذا فُرضت على الفلسطينيين فإنها تعني نهاية عملية السلام بالكامل لإن الفلسطيني سيُنهي قضيته أو ما تبقى منها من خلال إجراءات تنفيذية تصب جميعها في خدمة إسرائيل وتعني فيما تعني تحويل السلطة الفلسطينية إلى أداة قمعية عميلة مكملة لأجهزة إسرائيل الأمنية لا حكومة شعب يطمح للتحرر الوطني. ترامب رجل غامض، متقلب المزاج لم يفِ حتى الآن بأي عهد أو وعد قطعه لذلك قد تحمل الزيارة مفاجئات إيجابية ربما لن تكون كبيرة ولكنها لا توصد باب الأمل بالكامل. د. علاء أبو عامر كاتب وباحث وأكاديمي من فلسطين
مشاركة :