لم أصدق عيني وأنا ألتهم سطور هذه الرواية، وأتنقل بين شخصياتها النارية العنيفة النابضة بالحياة، وأتابع مواقفها الحارة المتفرجة، وبناءها الفني الأصيل الجديد على الرواية العربية، لم أتصور أنني أقرأ رواية كتبها فنان عربي شاب، ولم أتصور أن هذه الرواية الناضجة الفذة فكراً وفناً هي عمله الأول، لقد أخذتني الرواية بين سطورها في دوامة من السحر الفني والفكري، وصعدت بي إلى مرتفعات عالية من الخيال الفني الروائي العظيم، وأطربتني طرباً حقيقياً بما فيها من غزارة شعرية رائعة. لم أجد أصدق وأفضل من هذه العبارات كاستهلال للحديث عن عبقري الرواية العربية الطيب صالح، هذه المقدمة جزء من مقال قام بكتابته الأستاذ العظيم رجاء النقاش، في ستينيات القرن الماضي، تحدث فيه عن عبقرية جديدة في مجال الرواية العربية عبقرية الأديب الطيب صالح، ويعتبر هذا المقال من أجمل ما كُتب عن الطيب صالح. الطيب صالح وُلد في 12 يوليو/تموز 1929 في إقليم (مروي شمال السودان)، بقرية (كرْمَكوْل) وهي إحدى قرى قبيلة (الركابية) التي ينتسب إليها، وتُوفي في أحد مستشفيات العاصمة البريطانية لندن التي أقام فيها، في ليلة الأربعاء 18 فبراير/شباط 2009، عاش مطلع حياته وطفولته في ذلك الإقليم، وفي شبابه، انتقل إلى الخرطوم لإكمال دراسته فحصل من جامعتها على درجة البكالوريوس في العلوم. سافر إلى إنكلترا حيث واصل دراسته، وغير تخصصه إلى دراسة الشؤون الدولية السياسية. عمل الطيب صالح لسنوات طويلة من حياته في القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، وترقى بها حتى وصل إلى منصب مدير قسم الدراما، وبعد استقالته من الـ"بي بي سي" عاد إلى السودان، وعمل فترة في الإذاعة السودانية، ثم هاجر إلى دولة قطر وعمل في وزارة إعلامها وكيلاً ومشرفاً على أجهزتها، عمل بعد ذلك مديراً إقليمياً لمنظمة اليونيسكو في باريس، وعمل ممثلاً لهذه المنظمة في الخليج العربي.ويمكن القول إن الترحال والتنقل بين الشرق والغرب والشمال والجنوب أكسبه خبرة واسعة بأحوال الحياة والعالم، وأهم من ذلك أحوال أمته وقضاياها، وهو ما وظَّفه في كتاباته وأعماله الروائية وخاصةً روايته العالمية موسم الهجرة إلى الشمال. أدبه الطيب صالح كتب العديد من الروايات التي تُرجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة، ومنها (موسم الهجرة إلى الشمال) و(عُرس الزين) و(مريود) و(دومة ود.حامد) وغيرها من الروايات والقصص القصيرة، تُعتبر روايته موسم الهجرة إلى الشمال واحدة من أفضل مائة رواية عربية، وقد حصلت على العديد من الجوائز، وقد نشرت لأول مرة في أواخر الستينيات من القرن العشرين في بيروت، وتم تتويجه كعبقري الأدب العربي. تتطرق بصورة عامة في كتاباته إلى السياسة، وإلى مواضيع أخرى متعلقة بالاستعمار، والمجتمع العربي والعلاقة بينه وبين الغرب، والاختلاف بين الحضارتين الغربية والشرقية. رائعته موسم الهجرة إلى الشمال تعالج هذه الرواية المشكلة الرئيسية التي عالجها من قبل عدد من كبار الكتاب العرب، إنها نفس المشكلة التي عبَّر عنها توفيق الحكيم في روايته (عصفور من الشرق)، وعبر عنها بعد ذلك يحيى حقي في روايته (الحي اللاتيني)، هذه المشكلة هي مشكلة الصراع بين الشرق والغرب، كيف تواجه الشعوب العربية هذه المشكلة؟ هل تترك هذه الشعوب ماضيها كله وتستسلم للحضارة الغربية وتذوب فيها وتقلدها تقليداً كاملاً؟ هل تعود هذه الشعوب إلى ماضيها وترفض الحضارة الغربية وتعطيها ظهرها وتنكرها إنكاراً لا رجعة فيه؟ هذه هي المشاكل التي تعالجها هذه الرواية. إن الحل الذي رآه الطيب صالح في هذه الرواية أمام بطله مصطفى سعيد الذي عاش في لندن ووصل هناك إلى أعلى درجات العلم وأصبح دكتوراً لامعاً في الاقتصاد، وكانت ثقافته قد امتدت واتسعت حتى شملت كثيراً من ألوان الأدب والفن والفلسفة وأصبح مصطفى سعيد مدرساً في إحدى جامعات إنكلترا ومؤلفاً مرموقاً رأى الحل هو أن يعود إلى أصله، إلى منبعه، وليبدأ هناك من جديد. فهذه هي البداية الصحيحة والسليمة، وهذا هو نفس الحل الذي رآه من قبل توفيق الحكيم لبطله محسن، وقد عاد به إلى الشرق؛ ليبدأ بداية صحيحة، وهذا ما رآه يحيى حقي في (قنديل أم هاشم) لبطله إسماعيل. أخيراً.. يوجد الكثير من القيم الفنية في هذه الرواية، فعباراتها الجميلة تعتمد على لغة عربية في غاية الصفاء والأناقة والشاعرية، لغة ناصعة مصقولة، لغة غنية بالأضواء والظلال، مليئة بالشحنات العاطفية بعيدة عن التبذير والثرثرة، وأجمل ما فيها صياغة الطيب صالح للحوار باللهجة العامية، ومحافظته على الصياغة الفصيحة البسيطة. الموقف الحضاري للطيب صالح وحضوره بقوة إذ لا يستطيع أن يصل إلى هذا الموقف إلا فنان ذو عقل كبير وقلب كبير، وهذا نموذج للموقف الحضاري، عندما كان مصطفى سعيد بطل الرواية يحاكم في لندن وقف يقول: إنني أسمع في هذه المحكمة صليل سيوف الرومان في قرطاجة، وقعقعة سنابك خَيل (أللبني) وهي تطأ أرض القدس، البواخر مخرت عرض النيل لأول مرة تحمل المدافع لا الخبز، وسكك الحديد أنشئت أصلاً لنقل الجنود، وقد أنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول نعم بلغتهم إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوروبي الأكبر الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل، جرثومة مرض فتاك أصابهم من ألف عام: نعم يا سادتي إنني جئتكم غازياً في عقر داركم.. قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ، أنا لست عطيلاً - عطيل كان أكذوبة. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :