نوري الراوي أغمض عينيه على عراق متخيّل

  • 5/17/2014
  • 00:00
  • 14
  • 0
  • 0
news-picture

في معرضه الشخصي الاول عام 1982 كانت مدينة أحلامه ترقد على سطوح اللوحات، مجزأة كما لو أنه يلتقط بإصبعه بقعاً من الحبر الملون منشأة بصور متخيلة. يومها لم تكن مدينته الفاضلة تصلح للوصف الواقعي، ما من مدينة يمكنها أن تكون مرآتها. لا مدينة طفولته التي غمرتها المياه ولا بغداد التي عاش فيها الجزء الاكبر من حياته. هذا الرسام الرائد الذي اختارني لتقديم معرضه الأول وكنت يومها شاباً غضاً قد ولد عام 1925 ولم يقم معرضاً شخصياً لرسومه، على رغم أنه حقق شهرة لم يحققها رسام عراقي آخر، لا من جيله ولا من الاجيال اللاحقة... أكان في حمى انشغاله في التبشير بالفن وبقيمته في الحياة قد نسي أن يقيم معرضاً شخصياً لرسومه؟ كان نوري الراوي واحداً من ثلاث شخصيات تلفزيونية، كانت شوارع بغداد تخلو من المارة حين تبث برامجها الاسبوعية في سبعينات القرن الماضي. كان الاثنان الآخران هما مؤيد البدري في برنامجه «الرياضة في اسبوع» وكامل الدباغ في برنامجه «العلم للجميع». لذلك يعترف الكثيرون ممن أصابتهم مهنة الفن بلوثتها أنهم يدينون للراوي بالشيء الكثير من العرفان. لقد عرفنا من خلاله الشيء الكثير عن الفن. كان الرجل الذي أغمض عينيه أخيراً لا يرى في وجوده رساماً إلا جزءاً من مشروع تنويري كبير يتجاوزه شخصياً، ليحقق من خلاله هدفه السامي: الجمال باعتباره نوعاً من السلوك اليومي. كانت ضالته تقيم على الجسر الذي يعبر الناس من خلاله إلى قلعة الفن. لذلك كان سعيداً بأن تتاح له فرصة إقامة أول متحف وطني للفن الحديث في العراق. حدث ذلك عام 1962 وكان كولبنكيان قد اهدى العراق بناية من اجل ذلك الهدف. لقد حرص الراوي على أن يكون شاهداً على كل ما شهده العراق من تحولات فنية. كان حاضراً في كل اللقاءات الفنية. حضوره كان عنواناً لحيوية كان الراوي يستمدها من تشعب اهتماماته الثقافية. لذلك يشعر الكثيرون بالحيرة وهم يحاولون ربطه بجيل فني بعينه. كان قد كتب قصيدة النثر في وقت مبكر من حياته. غير أن قصائده التي نشرها في مجلة «الأديب» اللبنانية، كانت ذات مسحة منفلوطية لم تقدمه شاعراً فاتحاً في هذا المجال، لذلك اختار أن يكتب عن الفن التشكيلي بالطريقة نفسها. فكانت انطباعاته تعبر عن شغفه باللغة التي اختار أن يذهب إليها بما تبقى من زخرفها. كان نوري الراوي ناقداً فنياً، يغلّب لذائذه اللغوية على ذائقة معرفته الجمالية. لقد كتب ما لا ينفع في مجال تفكيك اسرار الجمال، غير أن كتاباته كانت نافعة على مستوى الترويج لفكرة الجمال. حرص نوري الراوي على الأرشفة. كان ارشيفه الشخصي يؤرخ لعراق، صار الفن الحديث جزءاً من صورته الحضارية. وكما اعتقد، ما من ارشيف للفن العراقي يمكنه أن يضاهي باكتماله ما انتهى إليه ارشيف الراوي. وهو ما لم تفهمه الحكومات العراقية المتعاقبة التي حرص الراوي على عرض ارشيفه عليها. كان شغفه بالتاريخ ليصبح جهداً ضائعاً في بلاد يتعرض إرثها كله للضياع. غير أن نوري الراوي رساماً، وهو ما لم يروج له الراوي نفسه، سيكون الجزء الذي يعود إليه العراقيون بفخر. كان نوري الراوي رسام المكان الذي اختفى. مدينة الطفولة الطينية التي لم يعد لها مكان في عالمنا، عالم الإسمنت والحديد. رسومه تشكل اليوم تنبؤاً بوطن هو في طريقه إلى الاختفاء. أغمض الراوي عينيه أخيراً على وطن هو الآخر صار وطناً متخيلاً. ثقافة

مشاركة :