في نصوص أحمد قران تمثل ثلاث ظواهر: * الوعي بجدب العالم من الروح: من يطالع النصوص يجدها تفيق به على شكوى الشاعر من التيبس وقلقه من الجمود، ذلك أن عالمنا الذي نعيشه يسكنه شبح الموت ويلقى بظلاله عليه بعد أن غاب فيه فعل الروح وكفت حيويتها عن تخضيب الوجود، فحين يقول أحمد قران: أرى لا أرى في المدينة إلا خطى القروي النبيل نساء يراقصن عشاقهن شيوخا تماهوا مع الوقت يسترجعون الحكايا عن الحب بائع خبز يداري ندوبا على وجنتيه ونادل مقهي يباشر مستشرقا لا يبالي بمن حوله فإنه يقيم أمامنا نماذج من الحيوية الموؤودة والروح المستلبة دخل بنا في هذا الأفق من موقع الاستشراف الذي يستنبئ طاقات الذات التي تستبصر عالمها بعد أن انهكها الوجع، جاء بالرؤيا، هذه الرؤيا المترددة بين النفي والإثبات (أرى.. لا أرى) فكأن ما يراه عدم، فهو لا يراه، لكنه مصر على أن يدون شيئا من بقايا الروح فيما يرى، لهذا جاءت مرئياته مستثناة من هذا السكون الذي يظلله العدم، وجاءت مرئياته كذلك مدثرة عناصرها بما كان فيها من بقايا الروح، نبل القروي، عشق النساء، ورقصهن، حكايا الشيوخ عن الحب. * تخصيب عالمه بماء الشعر وحيوية الحياة: حين أفاق الشاعر على عالمه في هذا الحال، من اليباس والتجمد، بعد أن طحنه الموت والتسلط والقهر والخوف من الآتي، لم يشأن أن يكون شاعرا بكاء راثيا، بل أخذ زمام المبادرة إلى أن يكون حاديا لرؤيا تخصب العالم، وتستنقذ الروح من قهر الزمن، فنجده يقول: كأني أراك تؤوبين من وطن في المجاز، تؤوبين محمومة بالحنين إلى يرقات من الوجد، تأتين كالوحي يستقرئ الغيب، حين تقولين: هذا كتاب صفي يقدس سر الخصوبة هذا الخطاب الآتي من الرؤيا عبر المؤنث (الأنثى) يشير إلى الرغبة في تأثيث العالم بروح الشعر وحيوية الروح، عبر الأنثى، القادمة من وطن في المجاز، وقد شمخ بها إلى هذا الوطن ضنا بها عن عالم العدم والموت الذي أشرنا إليه، فكأن اللغة التي عراها الجدب واليباس، تظل تنتظر المجاز الذي يعيد تعميرها وشحنها بطاقات الوجود. وينبجس من استدعاء هذه الرؤيا عالم مضمخ بـ(الوجد، الوحي، الكتاب، الخصوبة) ليكون التأثيث من (يرقات الوجد) (الوحي الذي يستقرئ الغيب) (تقديس سر الخصوبة). سيرورة حركة النصوص في المسافة بين العالمين: تسير حركة نصوص الشاعر في المسافة ما بين هذين العالمين، حيث يظهر في العالم الأول سكون الموات، والتشظي، والقلق، وفي الجديد المنشود الأمل والماء والحب والشعر والقصيدة، حين يقول الشاعر: كن نساء المدينة يحملن خبز الصباح إلى بعضهن، يثرثرن عن ليلة العيد، والغرباء الذين أتوا من قرى أهلها يلبسون التمائم، والعابرين الأزقة بحثا عن الفضلات من الزعفران، وعن نسوة لم يجدن كساء الشتاء، وعن بائعات الخضار اللواتي قدمن من الريف لا يكترثن بنوع الرداء، ولا لون وجه العميل، ولا رتبة (...)، ولا ما سينشر في صحف اليوم، عن عانسات المدينة.. هنا الشاعر لم يشأ أن يغرقنا بمشهد الموات، لكنه استدعى كينونة كانت ذات حيوية، تملؤها البراءة، وفطرة الحياة، ما اضطر العنصر الجوهري في تأثيث شعرية الحياة، وهو الأنثى أن يستبدلن الغياب بالحضور، فهن لا يجدن كساء الشتاء، ولا يسألن عن العلامات التي تمثل أمامهن كل يوم، إذ إن وجودهن لم يعد يكترث بأي علامات للدهشة بعد أن نضبت حيوية الحياة. وحين يقول: هي القرية الآن.. صنو المدينة تأخذ منا مفاتيح أسمائنا مذ تعبنا نرددها أبجديا ووهن الحكاية تروى لنا كي ننام جياعا ولا نستغيث بأحلامنا الطيف تأخذ منا رسوم الطفولة من غير وعي الضمير المشاكس، يتجلى الموات للروح بين حال الانتقال من القرية إلى المدينة، فتصبح القرية صنو المدينة في سلب الحياة وحيويتها، تذوب الأسماء، وتسرق البراءة من الطفولة، ليكون الحال كما قال الشاعر: لا الطريق السوي يؤدي إلى جنة عرضها عين أنثى تؤلب بعضا على بعضه، ثم تمزج بين التناقض عمدا، وتعرض عن جذوة الحب كي ينهض الهاجس المبتغى، فيكون الحال حينئذ الموات المطبق.. يقول: لا تقل إنها النار في وسن الوقت لا الماء في ذروة الموت، لا كائنا في المكانين كل هذا جعل نصوص أحمد قران تمثل فيها الظاهر الأسلوبية التالية: * سيطرة ضمير الخطاب * شيوع أسلوب النفي * استعادة الفعل الماضي سيطرة ضمير الخطاب أدى الوعي بجفاف العالم من الروح الشعرية وحاجته إليها أن تتخذ الذات الشاعرة زمام المبادرة، والظهور في حال الاحتياج للآخر، وخصوصا الأنثى لتأثيث العالم بروح الشعر، لذلك حفل نصه بالخطاب الآمر أو الناهي، و ادخال الآخر في أمنياته الاستشرافية، على نحو ما نلحظ في مثل عناوينه (وصايا)، (لا تجرح الماء) وفي مثل قوله: كأني أراك تؤوبين من وطن في المجاز تؤوبين محمومة بالحنين إلى يرقات من الوجد تأتين كالوحي يستقرئ الغيب يظهر خطابه للأنثى التي يستشرف وجودها لتأثيث العالم شعريا في الكلمات (كأني أراك تؤوبين ــ تؤوبين ــ تأتين كالوحي). ليس فقط في توجيه خطابه للآخر، بل يظهر الطلب في توجيه الخطاب للذات، من هذه التي استشرفها، فحضرت تحاوره، وحضر نصه حفيا بهذا الحوار، وتوجيه الأمر لذاته، حين يقول: حين تقولين: هذا كتاب صفي يقدس سر الخصوبة خذ ما تبقى من الوعد واترك سريرتك الحلم للعابرين إلى مقتضى الحال لا تبتئس بانقطاع المسافات بين الهوى والجوى شيوع النفي أدى تشبث الشاعر بعالمه الشعري المؤثث بالروح، إلى أن يحصنه عما يناوئه، وأن يجسد حراك الرفض في عالمه لما يتسلب حيوية الروح، فظهر أسلوب النفي في نصوصه بشكل واضح، يرفض به، ويسيج عالمه عما عداه، في مثل قوله: يسرقن معنى القصيدة من شاعر لم يجد وطنا ماثلا في كلام النساء اللواتي شققن أكف الضراعة عن مبتغاهن لا يحتكمن إلى الشك وفي مثل قوله: لا تقل إنها النار في وسن الوقت لا الماء في ذروة الموت لا كائنا في المكانين، وفي قوله: هنا أو هناك نرى علة في الكتابة نمحو بها مشهد الرفض أفعالنا لا تشابه نص الرواية إلا قليلا من الخبث في السرد هنا تشعر بإحساس الذات الشاعرة بهذا الرفض الذي يرفض به ما يعوق عالمه استعادة الفعل الماضي: كما تمت الإشارة سابقا إلى ما كان يراه الشاعر من وجود شعري جففه موات عالم اليوم، فإن هذا ارتد على تشكيله الشعري، فظهر فيه الرغبة في استحضار الماضي، فلذلك حفل بهذا عبر الحنين لصورة الماضي، باستحضار هذا الفعل وشيوعه عبر استخدام الفعل الماضي، في مثل قوله: كن نساء المدينة يحملن خبز الصباح إلى بعضهن شيوخا تماهوا مع الوقت يسترجعون الحكايا عن الحب وقوله: مروا على باب المدينة عابرين سبيلهم وقوله: مروا هنا كتبوا على الجدران تاريخ الغزاة وأوغلوا في الحزن فوق رؤوسهم غيم من البوح المعتق بالسؤال
مشاركة :