يمضي الشهر الرابع عشر منذ ولادة صغيرتي وبدء رضاعها بعد خوف شديد أن تتكرر تجربة أخيها الأكبر؛ حيث لازمتني أوجاع ما بعد الولادة لعامين، أقلها صداع مستمر، وألم ظهر لا يتوقف، ثم تتابع بعدها ضعف ما بعد الولادة، وبدء الرضاعة التي تعد من أشد الأوجاع التي تخوضها الأم حتى تبلغ مرحلة التعافي. أتذكر بكائي بعد شهر ونصف فقط لزوجي بأنني لا أريد الرضاعة، ولا أتحمل كل هذا العبء الجسدي الذي يستنزف صحتي بلا راحة.. أتذكر تصبيره وتفهمه، رغم أنه لا يعلم ما أمر به كرجل، وأذكر هدوئي بعدئذ، وأذكر بكائي المرير بعدها بشهور قليلة عند الفطام. لم يكن هذا كرهاً ولا قلة عطاء، بل سيل بلغ الزبى بعد إهمال طبي تسبب بكل هذا الضعف. تأثرت أسناني في حمل الصغيرة وأوصاني الطبيب بالاهتمام بمصادر تقوية العظام، وبعد شهور قليلة من رضاعها بينما تنمو أسنانها واحدة تلو أخرى شعرت ببعض ضروسي تتكسر منها قطعاً صغيرة، وأسمع طقطقة عظمي أحياناً.. ولا شيء غير محبتي لمصلحة أفضل واختيار أصح لفتاتي يدعوني لتحمل هذا السهر والاستيقاظ المستمر وقتما تريد.. ليس هذا حباً وعاطفة فقط لا عزيزي القارئ، ثمة خيارات أكبر من العواطف.. كقرار أن يكون لك أطفال تتحمل مسؤوليتهم وتنفق عليهم وقتك وجهدك ووجودك قبل مالك.. هذا شيء يتعدى الاستمتاع؛ لأنه ليس ممتعاً؛ بل متعب، لكنه بمجمله جميل ويدفئ الروح والقلب بهم. لا شيء يدفع الأم لتضحية لا تجب عليها وتستنزف خير صحتها حرفياً إلا ما يتجاوز العاطفة ولحظات الطمأنينة التي تتبخر وقت التسنين والبكاء المرير من طفل يعاني أوجاع خروج عظام صغيرة بين ثنايا فمه. يأتي شخص يدعي التوجيه ليخبر سائلة هل يجب عليها إطاعة زوجها؛ إذ يفرض عليها إرضاع طفلها وهي تأنف ذلك! أن تلجأ لطبيب نفسي، إذ كيف تأنف شيئاً فطري -من وجهة نظره فهو عالم بالنساء خبير!-ودعا لزوجها بالعون على مثلها وحين تخبره أخرى أن الأمر ليس فيه من المتعة؛ بل الألم والإجهاد فيوصيها الأخرى بالذهاب لطبيب نفسي؛ فهذا شيء شاذ عن الفطرة. يتخلى المجيب عن سؤال الشرع وهو يعلم أنه لا يجب عليها الرضاع، ولا يحق لزوجها الإجبار، ويلبس عباءة الحكم ويشرح نفس السائلة ويطلق عليها ألفاظه.. هكذا يصبح المرء مستباحاً من قبل من رجا فيهم حكمة ورحمة باسم الله الذي يتناولون شرعه وفقه دينه بضغطة زر. للرضاعة دفء وتواصل بين الطفل وأمه، ويشاركها بها الألم والفرحة وكل طعام أو دواء تأخذه، ويأخذ من شخصها وروحها. ليس مجرد غذاء بل معاني محسوسة وملموسة للطفل مسال في قطرات يطعمها، وكل هذا يأتي مع مسؤولية المداومة والحضور في التعب والصحة في البكاء، أو الفرح في المحاضرات أو العمل أو سرير النوم. هل تعجب من كل هذه التفاصيل التي تمر على كل أم ولم تعلم بها؟ من أمر ظننته خفيفاً لطيفاً تقوم به أمك أو أختك أو زوجتك للرجال ألف ألف عام من اتركوني الآن، فأنا متعب من العمل.. وهو كذلك، لكنك لم تتخيل ما وراء هالات امرأتك السوداء بسبب تغذية صغير، وإن لم تذكرها بالطعام ربما نسيت، وشكواها من التعب من أصغر مجهود. لا يقف أحد عادة أمام هذا الجهاد ويقدره وهو آخذ من اللحم والعظم. يتهرب ويتخفف كثير من الرجال من مسؤوليات عوائلهم فتجد المرأة وحدها عند الطبيب، وتحمل أطفالها وهموم شؤونهم الخارجية والداخلية، وفي الذهاب والإياب لا يقوم على شؤونها رجل ولا يرعى رعيته فيتقبل الناس قصور قوامته على أهل بيته، وإن كثيراً من الرجال هكذا! يغيب الأب عن عياله فلا يدري ما تحمل عقولهم ولا سمات شخوصهم ولا يداعب ولا يلاعب ويحصر دوره في قروشه الجافة.. ويسهل عليه التعليق على أن هذه نتائج تربية أمهم إذا أخطأوا.. لكنه لا يجد من يخبره بعدم أهليته للأبوة وعدم استحقاقه لها. لكن أن تقول امرأة إنها تأنف الرضاع، وهو غير واجب منها فكيف سولت لها نفسها، فلنجلد ظهرها ونحكم على أمومتها ونصف كل من يعذرها بأنه فيمنست! يقول بهذا النساء قبل الرجال للأسف. تأتي الولادة فتأخذ من المرأة ما تأخذ ويصعب كثير من النساء باكتئاب ما بعد الولادة باختلاف درجاته، وتعطي الأم رضيعها عطاءها تحت ضغط جماعي يراقب مصلحة الطفل ويهمل حالها، حتى خيارات الطعام المقدمة كل ما لذ وطاب من السعرات الحرارية؛ مهملة تعويض الأم عما تفقده في الرضاعة والمهم ما يدر لبنها.. حتى تصل حد ألا تطيق أو تكره نفسها والأطفال، لكنه من السهل جداً جداً أن نقول إنها مشوهة نفسياً وغير سوية عوضاً عن تلمس موضع الوجع ومعاملة الأم بما تستحق، وتقدير عطائها من لحمها وعظمها الذي يكبر عن قروش الجيب التي يقدر الناس اتفاقها كثيراً! لا أدري أي هبة قد تتنزل علينا ليرحم الناس بعضهم ويرحموا نساءهم، ويستوصوا بالنساء خيراً. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :