«الخطأ كان في عدم تأمين سيارة للهروب»!... بهذه الجملة ختم عبدالحميد السراج، مستشار عبدالناصر لشؤون سورية ولبنان والعراق في مكتب الرئاسة المصرية، أيام الوحدة بين مصر وسورية، لقاءه مع القاتل سلطاني في القاهرة عام 1976، أي بعد مرور عشر سنوات على اغتيال كامل مروة في مكتبه.جيء بسلطاني الى العاصمة المصرية بعد فراره من سجنه في رومية في ذلك العام. كانت الفوضى تعم لبنان والقتال الأهلي في أوجه، في ما كان يعرف بحرب السنتين. وكان مطار بيروت مقفلاً، فجرى تهريبه بالبحر عبر مرفأ صيدا الى مصر لمقابلة الرجل الذي أمر، أو ربما أُمِر، بتنفيذ مؤامرة الاغتيال.كانت القاهرة يومئذٍ قد دخلت عهداً جديداً مع تبوؤ الرئيس أنور السادات الحكم بعد وفاة عبدالناصر عام 1970. أما السراج، فكان نجمه قد أفل بغياب الأخير، ولم يعد له أي شأن أو دور في العهد الجديد. وكان يعيش في عزلة سياسية طوعية، فلا يستقبل أحداً ولا يقوم بزيارة أحد.أجرى السراج مع ضيفه تقويماً شاملاً لعملية الاغتيال، وحدد نقاط النجاح والفشل فيها، مبدياً إلماماً كبيراً في أدق تفاصيلها. ثم ودعه، وعاد الى انطوائه وصمته اللذين بقي فيهما لغاية موته في 2013 عن 88 عاماً.«مدرسة الرعب»عمل السراج رئيساً للمخابرات العسكرية السورية بين 1955 و1958، ثم وزيراً للداخلية، قبل أن يختاره عبدالناصر عام 1960 نائباً له ورئيساً للإقليم الشمالي، كما كانت تسمى سورية أيام الوحدة مع مصر. وكان السراج معروفاً ببطشه ومكره وسرعة غضبه. وهو الذي أسس «الدولة البوليسية» في سورية، جاعلاً من الاحتجاز القسري والتعذيب الجسدي والقتل الوحشي، دستوراً. وكوّن لأجل ذلك كادراً أمنياً خاصاً عُرف بتفننه في اساليب التنكيل التي طالت مئات السياسيين والمثقفين والصحافيين. وبرز في عداد هذا الكادر، ضابط مخابرات اسمه عبدالوهاب الخطيب، وصل في انحرافه الى حد الأمر بتذويب جثة القيادي اللبناني الشيوعي فرج الله الحلو، بحامض الأسيد، ثم رميها في نهر بردى، بهدف إخفائها عن ذويه، وذلك بعد قتله تحت التعذيب.وتحوّلت سورية على يد السراج في أيام الوحدة مع مصر الى سجن كبير، فمُنع المواطنون السوريون من السفر من دون «موافقة مسبقة» من الجهات الأمنية. وحُظر على رجالاتها ممارسة أي عمل سياسي، الأمر الذي دمّر بنيتها الديموقراطية، الهشة أصلاً. كما نُفذت إجراءات تأميم واسعة بحق القطاع الخاص، في تجربة اشتراكية صارمة أدت الى خنق الاقتصاد السوري وإعاقته لعقود تلت.ولم يقتصر دور السراج على سورية، بل كان له يد أيضاً في زعزعة أمن لبنان والأردن والعراق، قبل قيام الوحدة المصرية - السورية وبعدها. وقد كشفت الأيام أن معظم القلاقل والاغتيالات التي عانت منها تلك الدول يومئذٍ إنما كانت من تدبيره، ولاسيما في لبنان خلال الاقتتال الأهلي عام 1958. ولعل أفظع مؤامراته كانت عملية تفجير مقر رئاسة الوزراء الأردنية عام 1960 على رؤوس من فيه، والتي جرى تنفيذها في عز الوحدة المصرية - السورية. فراح ضحيتها 12 مسؤولاً أردنياً رفيع المستوى، بينهم رئيس الوزراء هزاع المجالي. وقيل يومئذٍ ان هدفها الحقيقي كان الملك حسين.ولا مبالغة في القول ان «مدرسة الرعب» التي أرساها السراج هي المدرسة التي تخرّجت فيها أو نسختها كل أجهزة المخابرات التي تحكّمت بمفاصل القرار في العالم العربي خلال نصف القرن الماضي.وكما بدأ زمن السراج في سورية فجأة عام 1955، انتهى فجأة عام 1961 عندما نجحت مجموعة من الضباط، بدعم أردني وسعودي، بفرض الانفصال عن مصر، وبإنهاء حكم عبدالناصر فيها. فتم القبض عليه ورميه في سجن المزة. ولكنه لم يقبع وقتاً طويلاً فيه، اذ قامت المخابرات المصرية عام 1962 بتهريبه الى المختارة في لبنان، ومن ثم الى القاهرة عبر مطار بيروت، في عملية استخباراتية مميزة. ولما وصل السراج الى القاهرة، استقبله عبدالناصر في «منشيته» استقبالاً حاراً، وعينه مستشاراً له لشؤون سورية ولبنان والعراق في مكتب الرئاسة المصرية.أما معاون السراج، ضابط المخابرات عبدالوهاب الخطيب، المتورط في حادثة التذويب بالأسيد، فنجح في الفرار من دمشق لحظة وقوع الانفصال. وعاش في الظل في منطقة طريق الجديدة في بيروت، بحماية أحد قبضايات المنطقة ويدعى إبراهيم قليلات. كان الأخير يعمل بتهريب الدخان بصورة غير شرعية، وملاحقاً من قبل الدولة اللبنانية بسبب ذلك. ولكنه كان أيضاً من القياديين الناصريين المسلحين الذين برزوا في الشارع البيروتي خلال أحداث 1958، ويقيم لنفسه مربعاً أمنياً خاصاً في الطريق الجديدة. فلجأ الخطيب اليه، وتوطدت الصداقة بينهما، وباتا لا يفترقان.الانفصال وصعود قليلاتلا شك أن الانفصال بين سورية ومصر عام 1961 شكل نكسة كبيرة لهيبة عبد الناصر. فنجاحاته قبل هذا التاريخ لم تتوقف، ولم تقتصر على تأميم قناة السويس وتجاوز تداعيات العدوان الثلاثي عام 1956، بل شملت أيضاً تمكّنه من تصدير نموذجه الثوري والاشتراكي الى خارج حدود مصر. وشهد عام 1958 بداية «المد الناصري» انطلاقاً من سورية مع إنجاز الوحدة. ثم امتد الى العراق حيث جرى قلب النظام الملكي الهاشمي، المنافس الإقليمي الأول للنظام المصري يومئذٍ. وأخيراً الى لبنان مع أحداث 1958. لكن انهيار الوحدة مع سورية كبح هذه الاندفاعة، فتوقف «المد»، ولكن فقط الى حين.باشر عبدالناصر التخطيط لردّة ثانية فوراً بعد الانفصال، وبدأ يعد العدة لإعادة إثبات نفوذه في كل الميادين. وسرعان ما أخذ خصومه الإقليميون، وعلى رأسهم الملك فيصل عبدالعزيز والملك حسين والرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، يرون نيران «المد الناصري الثاني» في كل مكان، بدءاً من اليمن عام 1962، ثم في سورية والعراق ولبنان، وبعدها في الجزائر والسودان وليبيا، وحتى في داخل بلدانهم أيضاً.وشكل السراج، بحكم موقعه الجديد في مكتب الرئاسة المصرية، عوناً كبيراً في اعادة فتح وتوسيع قنوات الدعم الى الجماعات الناصرية المسلحة، لاسيما في بلدان المشرق، وبينها بالطبع لبنان.وهكذا عاد سيل التمويل والتسليح الى البلد الصغير، الذي كان توقف بنهاية الاقتتال الأهلي عام 1958. فخرج من الظل معاون السراج المقيم في بيروت، عبدالوهاب الخطيب، وبدأ يظهر علناً الى جانب صديقه قليلات في الاجتماعات واللقاءات الناصرية. وتحول الى قناة رئيسية لإيصال المال والعتاد الى المسلحين الناصريين في الشارع البيروتي.ولكن قليلات ما لبث أن نجح في تجاوز الخطيب، إذ تمكن من فتح باب مباشر الى عبدالناصر، بمساعدة الزعيم اللبناني كمال جنبلاط الذي اصطحبه معه في زيارة الى القاهرة. فنُصّب قليلات بعدئذٍ زعيماً أوحد للتيار الناصري في بيروت، وصار الدعم المصري يصله بصورة مباشرة.عملية الاغتياللم يأت ذكر اسم قليلات على لسان سلطاني حتى ساعات الصباح الأولى من ليل الجريمة. ولكن، قبلاً، كيف تمت عملية الاغتيال وكيف جرى القبض على القاتل؟ وصل سلطاني الى مبنى «الحياة» في وسط بيروت بُعيد الساعة التاسعة مساء على دراجة نارية صغيرة تبين لاحقاً أن شقيقه محمود كان يقودها. فترجل منها، وتوجه مباشرة الى ردهة الاستقبال في الطابق الأول حيث سهّل له شريكه عامل الهاتف، محمود الأروادي، الدخول إلى غرفة صاحب «الحياة». وكان الأخير قد «زُرع» في منصبه قبل نحو شهر، حينما كانت المؤامرة في طور التحضير.وقف سلطاني أمام مروة الذي كان جالساً وراء مكتبه يتلقى مكالمة هاتفية، وسلّمه مغلفاً فيه رسالة وهمية. ولما بدأ الأخير فتح المغلف، عاجله برصاصة من مسدس كاتم للصوت، أصابته في الصدر بين الضلعين الثالث والرابع، مخترقة رئته اليسرى.تحامل مروة على نفسه ونهض من وراء مكتبه وانقض على زائره، ورماه نحو الواجهة الزجاجية لشرفة المكتب. فأطلق الأخير رصاصتين أخريين عليه، غير أنه أخطأه. وباصطدام سلطاني بالواجهة، وقع المسدس الكاتم للصوت من يده، وتحطم الزجاج مسبباً دوياً عالياً سمعه المحررون والموظفون في كامل المبنى. ولكن القاتل ما لبث أن استعاد توازنه، ودفع مروة دفعة قوية، فارتطم وجه الأخير بحافة طاولة صغيرة، فانشقت وجنته، ثم استقر أرضاً، وقد خارت قواه من جراء النزيف الداخلي.ترك القاتل ضحيته - ومسدسه - على الأرض، وخرج بهدوء وتؤدة الى ردهة الاستقبال ليوافي الأروادي، ولكنه لم يجد له أثراً. ذلك ان الأخير كان هرب لحظة سماعه ضجة العراك، فقفز من شباك خلفي صغير كان متفقا عليه للهروب، ثم أسرع الى السفارة المصرية في منطقة الرملة البيضاء للاحتماء فيها، حسب الخطة المرسومة. وتبعه الى هناك مشارك آخر في المؤامرة، يدعى أحمد «سنجر» المقدّم، كان يعمل مرافقاً شخصياً لقليلات. فتم استبقاء الرجلين داخل السفارة. وامتد مكوثهما فيها سراً مدة ستة أشهر، الى أن جرى تهريبهما الى مصر.وكان يواكب عملية الاغتيال في السفارة المصرية فريق أمني، برئاسة ضابط رفيع من المخابرات العسكرية المصرية، هو ف. هـ.، جاء خصيصاً الى بيروت للتأكد من حسن سير المهمة.أما سلطاني، فوجد نفسه وحيداً في ردهة الاستقبال على الطابق الأول من مبنى «الحياة»، وجهاً لوجه مع الموظفين والمحررين الذين كانوا يحومون حوله بحثاً عن مصدر الضجة التي أحدثها تحطم الزجاج. ولم يعد بإمكانه الوصول الى الشباك الصغير للفرار، مثلما فعل شريكه الأروادي قبل قليل. ولما سأله الموظفون عن سبب الضجة، حافظ على رباطة جأشه وأجاب: «الخناقة (أي الشجار) تحت»!. فاندفعوا نزولاً الى المدخل على الطابق الارضي ونزل معهم وبينهم وكأنه واحد منهم. ثم خرج يمشي مشياً عادياً نحو مبنى «المركزية» الواقع في نهاية الشارع.وعندما لم يلاحظ الموظفون في أسفل المبنى شيئاً، رجعوا الى الطابق الأول ليجدوا مروة ملقياً على أرض مكتبه مضرجاً بدمائه، وعاجزاً عن الكلام. فعادوا مسرعين الى الشارع لتعقب الزائر الغريب وهم يصرخون «حرامي! حرامي!»، جلباً للانتباه.أدرك سلطاني عندئذٍ وقوع الشبهة عليه، فطفق يركض في شوارع وسط بيروت، والناس في أثره، الى ان وجد سيارة اجرة عند شارع المعرض، فركبها طالباً من سائقها أن يوصله الى السفارة المصرية. ولكن لسوء حظه قرر أحد المواطنين، ويدعى رفيق المير، اللحاق به، فاستقل سيارة اجرة ثانية وسار في أثر السيارة الأولى التي كانت تقل سلطاني. وبوصول المطاردة الى منطقة المصيطبة، قفز الأخير من السيارة فتعثر وسقط على الأرض. فأدركه المير، وقبض عليه، ثم ساقه الى دورية للشرطة، تابعة للفرقة 16، كانت متوقفة في آخر الشارع.خطأ واعترافات«الخطأ كان في عدم تأمين سيارة للهروب!». كم كان السراج مصيباً في ما قاله لسلطاني عند لقائهما عام 1976. فلو تأمنت تلك السيارة، لما جرى القبض على القاتل. ولكانت أسرار مؤامرة اغتيال مروة بقيت في طي الغيب.عاد رجال الشرطة بالجاني الى مبنى «الحياة»، فتعرف عليه الموظفون فوراً. ولما حاول بعض العمال وسكان الحي الهجوم عليه، سارعوا الى نقله الى مخفر في حي البسطا المجاور.اعترف سلطاني عند وصوله الى المخفر بجنايته بلا تردد. فأدخل النظارة. ثم نقل الى المركز الرئيسي للدرك في بيروت. وكما يحصل عادة في الجرائم الكبرى، تم تعيين محقق عدلي خاص لجمع الأدلة وأخذ الإفادات. واختير لهذه القضية القاضي أمين الحركة الذي توجه أولاً الى مستشفى الجامعة الأميركية للتأكد من مصير مروة، عله يأخذ إفادته لو كان حياً، فوجده قد فارق الحياة. ثم سارع الى مركز الدرك ليباشر التحقيق مع سلطاني.وما ان بدأ المحقق جلسات الاستجواب، حتى وصل ضابط المخابرات اللبناني الملازم سامي الخطيب طالباً زيارة الموقوف. أتى الخطيب بصفته ضابط الارتباط مع المخابرات المصرية في الشعبة الثانية. ولعله أتى أيضاً بناءً على طلب الفريق الأمني في السفارة المصرية الذي أراد أن يعرف مصير القاتل. فاختلى الخطيب به لبضع دقائق ثم خرج.ولما عاود القاضي أمين الحركة التحقيق مع سلطاني، بدأت تتناقض إفاداته، وصار ينكر ما كان أقرّ به سابقاً. فقرر عندئذٍ تركه وحيداً في زنزانته.ومع انبلاج الفجر، دخل عليه مجدداً، متعمداً ملاطفته بحديث عام. ثم قال له: «انظر! أنت هنا وحدك وستبقى هنا، بينما الآخرون طليقون! من غير المعقول أن تكون وحدك ارتكبت هذه الجريمة، وليس لديك المال والرجال».أطرق القاتل رأسه لبضع دقائق، وكان التعب قد أنهكه بعد ليل طويل، ثم قال: «سجّل عندك اسم ابراهيم قليلات»!. وكرّت بعدئذٍ سبحة الاعترافات. فباح بأن قليلات هو الذي جنده وأمّن له المسدس الكاتم للصوت، وأنه تم تدريبه على السلاح في أحراج عرمون القريبة من بيروت، وأن التحضير للاغتيال بدأ قبل شهرين من التنفيذ، وأنه جرى التخطيط في البداية لاغتيال مروة في منزله بيت مري، ولكن الفكرة طويت لاحقاً لبعد مسافة الهروب، فتم اختيار مكتب «الحياة» بديلاً. كما اعترف بأنه زار القاهرة قبل بضعة أسابيع من عملية الاغتيال.ثم فاجأ سلطاني المحقق العدلي بكشفه عن وجود طائرة مصرية في مطار بيروت تنتظر تهريب المتآمرين الى مصر. فأمر المحقق العدلي بمنع تلك الطائرة من الإقلاع قبل التعرف على من في داخلها، وطلب من رجال الأمن في المطار إجراء كشف سريع عليها.***تسارعت التحقيقات في الأيام التالية، ووصل عدد الموقوفين الى أكثر من 20 رجلاً، جلّهم من أقارب المتآمرين الأربعة. وجرى اتهامهم، إما بحيازة أسلحة بصورة غير شرعية، او بجرم كتم معلومات عن التحقيق. أما الموقوفون الآخرون، فلم تفصح الدولة اللبنانية عن هويتهم، «حرصاً على سرية التحقيق».ولم يتم الإفصاح سوى عن هوية واحد من الموقوفين المكتومين، وهو مذيع سوري يدعى عبدالهادي البكار، كان سلطاني قد سمّاه في معرض إفاداته. كان البكار جاء الى بيروت من بغداد قبل عشرة أيام، وزار كامل مروة في مبنى «الحياة» قبل 4 أيام من حادثة الاغتيال. وكان على معرفة وثيقة بقليلات، وعلى صلة بسيدة تدعى هدى، تبين أنها قامت بتحذيره بأن السلطات اللبنانية تراقبه، وذلك قبل أن يجري توقيفه بأيام. وعُرف لاحقاً أن هذه السيدة كانت هدى زلفو آغا، شقيقة ملك، حرم السراج. ولم يُعرف لماذا سمّى سلطاني، البكار، وما الدور الذي لعبه الأخير، وعلى أي أساس تم اطلاقه لاحقاً. وبقيت هذا الأسئلة لغزاً من ألغاز التحقيق. أما قليلات، فغادر بيروت الى باريس قبل حصول الاغتيال بثلاثة أيام، إبعاداً للشبهة عنه، فتم تسطير مذكرة جلب بحقه لدى الإنتربول. لكنه تمكن من الانتقال الى القاهرة قبل سريان العمل بها، فمكث هناك مدة ستة أشهر، الى أن اكتملت صفقة تسليمه الى السلطات اللبنانية مع بداية جلسات المجلس العدلي. وعندما عاد، أودع في مستشفى البربير بدلاً من السجن، وبقي فيه حتى نهاية المحاكمة. ولم يجر أي استجواب له عند وصوله، كما لم يُطلب منه الإدلاء بأي إفادة أمام القضاة.تفجيران وأحكامافتتح المجلس العدلي أولى جلساته في مطلع ديسمبر 1966، على وقع تفجيرين استهدفا جريدتي «الحياة» و«الصفاء» التي كان يملكها الصحافي المرموق رشدي المعلوف، والد الكاتب اللبناني الفرنسي أمين المعلوف. وكان هذا ثاني تفجير تتعرض له «الحياة» بعد حادثة الاغتيال. وسبقت ذلك حملة صحافية واسعة في الجرائد والمجلات المحسوبة على التيار الناصري للدفاع عن القاتل و«المحرض» والتقليل من خطورة الاغتيال. كما تلقى محامو الادعاء إدمون رباط ومحسن سليم والنائب نصري المعلوف - ومعهم المحقق العدلي القاضي الحركة - تحذيرات بالهاتف والرسائل المغلفة، بهدف التخويف. ولم تتوقف هذه التفجيرات والتهديدات حتى نهاية المحاكمة بعد عامين.وفي منتصف عام 1968، أصدرت المحكمة حكماً قضى ببراءة قليلات، وبالسجن 10 سنوات لكل من المتهمين الفارين الأروادي والمقدم، وبالإعدام لسلطاني. ثم جرى تخفيض عقوبة الأخير الى 20 سنة سجناً، بموجب قرار عفو رئاسي. غير أنه لم يكمل سوى عشر سنوات وراء القضبان بين 1966 و1976.كان سلطاني سجيناً مرفهاً بأي مقياس. فرعاية المخابرات المصرية له لم تنقطع، وزيارات موظفي السفارة المصرية في بيروت، وبينهم الملحق الأمني عبدالحميد المازني، لم تتوقف. وكان يأتيه مندوبان أمنيان مصريان في نهاية كل شهر، لتسليمه مغلفا في داخله راتب سخي، في روتين استمر طيلة سنين احتجازه. وتمكن بواسطة هذا الراتب أن يغير ظروف سجنه بالكامل عبر رشوة الحراس لتأمين كل ما يتمناه من أسباب الراحة والرفاهية. رغم ذلك، كان الحقد يتآكله، لأنه كان يعتبر أنه تُرك وحيداً ليدفع الثمن. وكانت الضغينة لا تتركه تجاه شركائه، وتحديداً قليلات، بسبب تمكنهم من الإفلات من العقاب.في البداية، أي خلال فترة المحاكمة، لم ينقطع التواصل بين سلطاني وقليلات. كان يعتقد سلطاني أنه سيتم إطلاقه مع الأخير في نهاية المطاف، فلماذا يقلق؟ كانت السفارة المصرية قد جندت للدفاع عنهما فريقاً رائعاً من المحامين برئاسة النائب بهيج تقي الدين، الذي كان يزور القاهرة بانتظام للتنسيق والتخطيط، بينما تولت القيادات السياسية اللبنانية المحسوبة على التيار الناصري مواصلة الضغط على السلطات السياسية والقضائية للإفراج عنهما. ولم تهتز ثقة الموقوفين بحتمية خروجهما إلا بعد هزيمة 1967، عندما استقال عبدالناصر من منصبه، تحت وطأة الانكسار. ولكنهما ما لبثا أن تنفسا الصعداء بعد عودته السريعة عنها... كانت غيمة سوداء ومرت.عند صدور حكم الاعدام عام 1968 كان المتفاجئ الوحيد في قاعة المحكمة القاتل سلطاني. لم يكن باستطاعة القضاء اللبناني القفز فوق اعترافه الصريح والمتكرر باقترافه جريمة الاغتيال. ورغم محاولاته تغيير إفادته مراراً لتضليل التحقيق وإنقاذ نفسه، فإن الوقائع الحسية كانت تفرض عليه العودة الى الإقرار بالحقيقة في كل مرة.أما علاقة سلطاني بقليلات فلم تعد فوراً الى السواء. كان قليلات قد أصبح عند خروج سلطاني من السجن عام 1976 رئيساً لميليشيا «المرابطون» في بيروت، مع كل ما يعنيه ذلك من نفوذ ومال. ووجد لنفسه رعاة إقليميين جددا، على رأسهم الرئيس الليبي معمر القذافي. ورغم اهتمامه بإصلاح ذات البين مع سلطاني، فإن الأخير بات بالنسبة إليه مع مرور الزمن مجرد طيف من ماض بعيد. ورفض سلطاني في البداية لقاء قليلات. ولكنه في النهاية وافق، فحصل اللقاء، ولكنه لم يتعد كسر الجفاء. ثم سار كل منهما في طريقه الى قدره المحتوم.في 1985 هرب قليلات من لبنان بعد هزيمة «المرابطون» على يد «حركة أمل» و«الحزب التقدمي الاشتراكي»، اثر معارك ضارية في شوارع بيروت. فلجأ الى مدينة لوغانو السويسرية، حيث يعيش الى الآن في عزلة طوعية وصمت مطبق، على طريقة السراج من قبله.أما سلطاني فأكمل حياته العادية، وتزوج وأسس عائلة، قبل أن يموت باكراً بالسرطان عام 2000.وبقي الأروادي والمقدّم مجهولي المصير. وقيل انهما لم يغادرا منفاهما في مصر، وتوفيا بأزمات قلبية، عن عمر باكر أيضاً. ولكنه أمرغير مؤكد.صلاح نصرليس واضحاً الى اليوم، تسلسل المسؤولية داخل الهرم المصري في قضية اغتيال مروة. ولكن من المرجح أن جهاز المخابرات العسكرية برئاسة صلاح نصر هو الذي رعى تنفيذ الاغتيال. وفي بلد شديد المركزية كمصر، من المستبعد ألّا يكون عبدالناصر أيضاً في دائرة القرار، رغم نفي رجالات نظامه المتكرر لأي دور له أو لنظامه في تنظيم المؤامرة. على أي حال، يبقى هذا السؤال سؤالاً أكاديمياً، لا يقدم ولا يؤخر في شيء.سجل عندك... ابراهيم قليلاتأطرق القاتل عدنان سلطاني رأسه لبضع دقائق، وكان التعب قد أنهكه بعد ليل طويل، ثم قال: «سجّل عندك اسم ابراهيم قليلات»!. وكرّت بعدئذٍ سبحة الاعترافات. فباح بأن قليلات هو الذي جنده وأمّن له المسدس الكاتم للصوت، وأنه تم تدريبه على السلاح في أحراج عرمون القريبة من بيروت.شخصيات ذات صلةاستندت المعلومات الواردة في النص، إلى مقابلات أجريت مع شخصيات ذات صلة أو اطلاع على عملية الاغتيال، وتم تسجيلها بين منتصف التسعينات ومطلع الألفية الثانية، ويمكن زيارة موقع kamelmrowa للاطلاع على مزيد من التفاصيل.أما المقابلات الأخرى فتعود الى كل من: القاضي في المجلس العدلي في قضية كامل مروة، شفيق أبو حيدر، المحقق العدلي القاضي أمين الحركة، القاضي منيف عويدات، السيدة سلمى بيسار مروة، محامي الادعاء النائب نصري المعلوف، محامي الادعاء رشاد سلامة، محامي الدفاع سامي الرفاعي، محامي الدفاع عبد الله الغطيمي، اللواء سامي الخطيب (تولى منصب ضابط الارتباط بين «المكتب الثاني» اللبناني والمخابرات المصرية في الستينات)، رجل الاستخبارات اللبناني خالد خضر آغا، الصحافي في «الحياة» عرفان نظام الدين، الناشط في حركة القوميين العرب الناصرية محمد الكشلي، الصحافي والناشر الناصري محمد أمين دوغان، المسلح الناصري في أحداث 1958 صالح ناصر الدين، النائب نجاح واكيم، والقاتل نفسه عبر نجم الهاشم.تعزية وأسفأول برقية تعزية بكامل مروة، جاءت من الرئيس المصري الاسبق جمال عبدالناصر. وسلمها عامل البريد باليد الى ذويه في منزله العائلي في بلدة بيت مري في اليوم التالي للاغتيال، وتم نشرها في صحيفة «الحياة».وفي 1974، استقبل أنور السادات في مكتبه في القاهرة فريقاً صحافياً من جريدة «الحياة»، وعلى رأسه السيدة سلمى بيسار، أرملة مروة. وفي نهاية المقابلة، استبقى الرئيس السابق السيدة مروة لبضعة دقائق، ليبدي أسفه لدور مصر في عملية الاغتيال.بعد نصف قرن... تفكيك جريمة| خيرالله خيرالله |وحدها الصدفة ادّت الى توقيف قاتل الصحافي اللبناني كامل مروّة في اليوم ذاته الذي ارتكب فيه جريمته مساء السادس عشر من مايو من العام 1966... هذه الصدفة فكّكت احجيات كثيرة، من بينها من وراء القاتل وكيف كان يعمل النظام الأمني الذي أقامه الرئيس المصري السابق جمال عبدالناصر في مصر والذي راح ينتشر في انحاء مختلفة من العالم العربي، خصوصا بعد اسقاط النظام الملكي في العراق في العام 1958.القاتل هو عدنان سلطاني... وعائلة كريم مروّة، لم تتردد في السعي الى معرفة ما الذي لدى القاتل، بطريقة غير مباشرة، عبر الزميل نجم الهاشم. حصل ذلك بعد سنوات عدة من ارتكاب الجريمة في مكتب مؤسس صحيفة «الحياة» في وسط بيروت. كان اللقاء بين الهاشم وسلطاني في السنة 1999، قبل عام من وفاة الاخير الذي أصيب بالسرطان.بالتفاصيل الدقيقة، أوردت عائلة مروة تفاصيل الجريمة التي أودت باهمّ صحافي عرفه الشرق الاوسط في القرن العشرين. لا تعود اهمّية كامل مروّة الى انّه ساهم في تحديث الصحافة العربية فحسب، انطلاقا من بيروت، بل الى انّه كان لاعبا سياسيا اساسيا على الصعيد الإقليمي في ضوء علاقاته الممتدة من المغرب وتونس وليبيا... الى المملكة العربية السعودية، مرورا بكل دول المشرق العربي وبالعائلة الهاشمية تحديدا.هذا ما دفع عبدالناصر الى التخلّص منه وكان لا يزال في الواحدة والخمسين من العمر. في نصّ سابق له يلقي كريم كامل مروّة، الضوء على نجاح والده في جعل الزيارة الاولى للملك فيصل، بعد صعوده الى عرش المملكة العربية السعودية في العام 1964، لإيران ومصالحته الشاه محمّد رضا بهلوي. جاءت الزيارة في توقيت غير مريح لجمال عبدالناصر الذي كان يعتبر ايران عدوه الاوّل إقليميا والسعودية منافسته الاولى عربيا.من خلال جريمة طاولت شخصا، تكشّفت مآسي الشرق الاوسط في مرحلة ما قبل هزيمة 1967. وتكمن اهمّية النص الذي وضعته عائلة مروّة ونشرته في الذكرى الـ51 لعملية الاغتيال، في رسمه صورة حقيقية للوضع العربي في تلك المرحلة وكيف تأسس النظام الأمني العربي الذي انجب مجموعة من الانظمة مارست سياسة الغاء الآخر. الأخطر من ذلك كلّه، يكشف كيف كان لبنان دائما ضحيّة لهذا النظام الأمني العربي الذي جعل الضابط والمستشار السوري عبدالحميد السرّاج، «يأمر» او «يتلقّى امرا» باغتيال مروة.عندما اغتيل مروّة، كان في لبنان شبه دولة وأجهزة تتمتّع بكفاءة، وان في سياق دائرة معيّنة غير بعيدة كثيرا عن النفوذ الكبير الذي مارسه النظام المصري الناصري وادواته. كان افضل تعبير عن هذا النفوذ وجود خليّة في السفارة في بيروت تشرف على عملية الاغتيال ووجود ضابط في المخابرات العسكرية اللبنانية (المكتب الثاني) يدعى سامي الخطيب مهمته التنسيق مع الاجهزة المصرية. وقد حرص الخطيب على زيارة الموقوف سلطاني مباشرة بعد احتجازه في احد المخافر البيروتية.ثمّة نقاط عدّة تستأهل التوقف عندها بعد اعتراف سلطاني بجريمته، وبانّ من جنّده كان إبراهيم قليلات. من بينها تحوّل قليلات الى زعيم للتيار «الناصري» في لبنان بعدما اصطحبه كمال جنبلاط الى القاهرة وقدّمه الى عبدالناصر. كان قليلات قبل ذلك مجرّد مهرّب دخان في احد احياء بيروت (طريق الجديدة).كذلك كان لافتاً انّ السرّاج كان من اعدّ لعملية اغتيال مروّة بادق التفاصيل. السرّاج كان مسؤول المخابرات العسكرية في سورية ثمّ وزيرا للداخلية ثم نائبا لرئيس الجمهورية. بعد انتهاء مشروع الوحدة المصرية ـ السورية في 1961، سجن في سورية. لكن المخابرات المصرية هربّته الى مصر عن طريق لبنان حيث امضى ليلة واحدة في قصر المختارة، استنادا الى ما أورده كريم كامل مروّة.اعتمد السرّاج مستشارا لشؤون لبنان وسورية والعراق والأردن وذلك بعد نقله الى مصر. في هذا السياق، كُلّف بالتخلص من مروّة. اعتمدت الاجهزة المصرية، قليلات الذي جنّد بدوره سلطاني. لم يكن ممكنا تنفيذ عملية اغتيال بهذه الدقّة على يد مجرم مثل سلطاني من دون تغطية مصرية على اعلى مستوى.فكّك النصّ الذي كشفته عائلة مروّة حلقات الجريمة التي استهدفت احد مؤسسي الصحافة الحديثة في الشرق الاوسط، وصولا الى كشف ان سلطاني الذي فرّ من السجن بعد عشر سنوات من الجريمة هُرّب الى القاهرة بحرا من صيدا، اذ كان مطار بيروت مقفلا في 1976 بسبب حرب السنتين. وجد من يهرّب سلطاني من السجن ويأخذه الى القاهرة حيث قابل السرّاج وعرض معه تفاصيل عملية الاغتيال. استخلص السرّاج الذي كان مجرما حقيقيا ان سبب كشف ظروف الاغتيال وملابساته يعود الى «انّ الخطأ كان في عدم تأمين سيارة للهروب».بالفعل، لو كانت هناك سيارة تنتظر سلطاني خارج مبنى «الحياة» في حي الخندق الغميق في بيروت، لكان انتهى في السفارة المصرية مثله مثل عامل الهاتف الذي امّن له الوصول الى مروّة.لو تأمنت مثل هذه السيّارة، لما كان ممكنا تفكيك الغاز الجريمة وربط حلقاتها ببعضها البعض، من اسفل الهرم الى أعلاه وصولا الى ابداء أنور السادات في 1974 «اسفه» لدور مصر في اغتيال مؤسس «الحياة». فعل السادات ذلك لدى استقباله وفدا من الصحيفة كانت على رأسه السيدة سلمى البيسار مروّة زوجة الراحل. اخذها السادات جانبا وابلغها الحقيقة المتمثلة في ان مصر عبدالناصر كانت وراء اغتيال رجل استثنائي قاوم كلّ اشكال التخلّف واسّس ما كان في حينه اهمّ صحيفة عربية منفتحة على العالم.بعد ما يزيد على نصف قرن، لا يزال لبنان يقاوم. الفارق الآن ان ايران الخمينية حلّت مكان مصر الناصرية. الهدف لا يزال لبنان. لم ترغب عائلة مروّة يوما في الانتقام. كلّ ما ارادته كان كشف الحقيقة... من اجل لبنان، بعيدا عن ايّ مآرب سياسية وذلك من اجل التاريخ ومن اجل ان لا تضيع الحقيقة. الصدفة كانت المنطلق، لو لم يوجد مواطن لبناني يلحق بسلطاني، لكان الاخير انتهى في السفارة المصرية، أي في مكان آمن، ولما امكن الوصول الى رأس الهرم.الصدفة أيضا لعبت دورها في كشف من اغتال رفيق الحريري. استطاع الضابط وسام عيد كشف الجريمة عن طريق تفكيك احجية شبكة الاتصالات. ادّى ذلك الى تقديم المجرمين الى العدالة. الثابت ان آل الحريري لا يسعون الى الانتقام. كلّ ما هو مطلوب بعد كلّ هذا الزمن انصاف لبنان وانصاف رجال، من النوع الذي لا يتكرّر، رجال عملوا من اجل لبنان، من كامل مروّة... الى رفيق الحريري.
مشاركة :