إن من الخطأ الكبير، الذي لا نزال نقع فيه، إن على مستوى الإعلام، أم على مستوى الحديث بشكل عام، أننا لا نفرق، عند الحديث عن الشيعة، بين المعتدلين من الإمامية، الذين رفضوا، ولما يزالوا، ولاية الفقيه الخمينية، وبين المغالين الذين نصروها.. ولاية الفقيه، التي دشن الخميني أحدث، وأحدّ نسخها، وأكثرها ثيوقراطية وبعدا عن الحداثة السياسية، لم تكن موضع إجماع من المراجع الشيعية الإمامية، ناهيك عن أن تكون كذلك من قبل المذاهب، أو المراجع الشيعية غير الإمامية. السؤال: كيف بدأ التفكير الإمامي بولاية الفقيه؟ لقد شكلت غيبة الإمام الثاني عشر لدى الشيعة الإمامية الاثني عشرية، منعطفا تاريخيا مهما، إذ تأسس على إثره ما عرف بمصطلح (الغيبة)؛ ثم ترتب على الغيبة أن حرّم الفقه الشيعي ممارسة السياسة وإقامة الدولة المنظورة حتى يعود الإمام الغائب. الفراغ الدستوري الذي ترتب على غيبة الإمام حتم على المراجع الشيعية الاجتهاد لمعالجته؛ فكان أولها على يد الشيخ المفيد، في أوائل القرن الرابع الهجري، ثم توالت الاجتهادات على إثره. وعلى الرغم من تلك الاجتهادات التي تمخض بعضها عن إقرار تولي الفقيه الجامع لشروط الاجتهاد النيابة عن الإمام، إلا أن أيّا منها لم يجز للفقيه تولي السلطات السياسية، إذ قصرت صلاحيته التي ينوب بها عن الإمام على الصلاحيات الروحية فحسب؛ واستمرت الحال هكذا حتى الثلث الأول من القرن السادس عشر الميلادي، عندما أسفرت اجتهادات الفقيه الإمامي، (نور الدين الكركي العاملي، توفي عام 1533م)، عن جواز تولي الفقيه لسلطات الإمام السياسية، بعد أن كانت مقتصرة على صلاحياته الفقهية فحسب. وما إن تم ذلك، حتى هب جمهور واسع من فقهاء الشيعة الإمامية لمعارضته والوقوف في وجهه، انطلاقا من أن ما قام به يتعارض مع أصل الغيبة والانتظار لحين مجيء الإمام الغائب. وهكذا، يمكن القول إن بدء تعاطي الفقهاء الشيعة مع الشأن السياسي كان مع العهد الصفوي، ثم تواصل مع العهد القاجاري، ثم مع العهد البهلوي، حتى توج الخميني تلك المسيرة، بتأسيسه لنظرية ولاية الفقيه المطلقة، التي سوغ فيها للفقيه تولي السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية بشكل مطلق. ومن الجدير بالذكر أن ولاية الفقيه المطلقة التي دشنها الخميني بعيد انتصار الثورة الإيرانية، لم تكن موضع إجماع من الشيعة الإمامية الاثني عشرية، ناهيك عن المذاهب الشيعية غير الإمامية، كالزيدية والإسماعيلية. يقول الكاتب اللبناني (فرج كوثراني): "من المهم الإشارة إلى أن كثيرين من الفقهاء الشيعة العرب، من جبل عامل في لبنان، ومن القطيف، ومن النجف أيضا، سارعوا إلى شجب الخطوات الفقهية التي قام بها الفقيه الكركي، متهمين إياه بأنه يشرعن سلطات زمنية لغير السلطة الشرعية، التي هي من حق الإمام المعصوم وحده، وأنه يقوم بتطوير مفاهيم غريبة عن عقيدة الإمامة، من شأنها أن توسع صلاحيات الفقيه بما لا يتناسب مع العقيدة الإمامية، وفي ذلك تعد على صلاحيات الإمام". ومع كثرة الانتقادات الشيعية لنظرية ولاية الفقيه الخمينية، إلا أن أبرز من تصدى لنقدها فقهيا، هو الشيخ محمد مهدي شمس الدين، الذي ركز نقده للنظرية على تبيان تجافيها عن أبرز أصول الشيعة الإمامية. يرى شمس الدين أن الإمام في حضوره كان يملك السلطات الروحية والسياسية، الدين والدنيا، لأنه معصوم عن الخطأ، ومزود بالعلم الإلهي الذي يجعله مؤهلا، روحيا وسياسيا، لتولي كافة السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية؛ لكنه الآن غائب، ولا بد للأمة من قيادة تسد فراغه، فكيف يمكن سد فراغه؟ يمكن أن ينوب عنه الفقيه الجامع لشروط الاجتهاد، لكن وفق قيد ضروري، وهو أن الفقيه النائب لا يجوز أن يتولى كافة الصلاحيات الروحية والسياسية، لماذا؟ لأنه ليس معصوما مثل الإمام. ولو قلنا إن الفقيه يرث كافة صلاحيات الإمام، فإننا ندعي عصمته؛ وادعاء أن أحدا معصوما غير الأئمة، قفزٌ على نظرية الإمامة، وإتيان لشيء إلهي لم يأذن به الله. إن الإمام الغائب، إذ يختص بصلاحيات الحكومة المطلقة، فإن غيابه كان لا بد أن يؤثر على أي حكومة تنوب عنه، من جهة أنها لا يمكن أن تكون مطلقة، لأنها لا تتمتع بعصمته، ومن ثم، فإن للحكومة، بالضرورة، سلطات محدودة بحدود دنيويتها، وعدم عصمتها؛ ويجب عليها بالتالي أن تحكم في ظل فصل كامل للسلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية). من جهة ثانية، ينتقد شمس الدين النص الذي يتخذه الخمينيون دليلا على صحة ولاية الفقيه، وهو حديث عمر بن حنظلة، فيعتبر أن السلطة الثابتة فيه، هي السلطة التنفيذية، أي حفظ النظام العام، وهذا لا يقتضي تمركز السلطات في شخص الفقيه. إن السلطة التنفيذية لا يمكن أن تجتمع مع السلطة التشريعية في يد فقيه ليس بمعصوم. لماذا؟ لأننا نجد في نظرية ولاية الفقيه الخمينية أن الولي الفقيه يقوم بالاجتهاد والإفتاء من جهة، ثم يتولى هو أمر تنفيذ اجتهاداته وفتاواه بنفسه من جهة أخرى، وهو إذ يتولاها (تشريعا وتنفيذا)، فإنه يقوم بذلك بصفته معصوما من الخطأ، شأنه شأن الإمام الغائب؛ وهذا ما سيؤدي إلى أنواع متعددة من الطغيان، أهمها الطغيان السياسي. ومثلها السلطة القضائية، التي لا يجوز أن تكون بيد الولي الفقيه، الذي يجب عليه أن يكتفي بالسلطة التنفيذية، وهي المفهومة من حديث عمر بن حنظلة، الذي يستند إليه الخمينيون في تأسيس ولاية الفقيه المطلقة. من هنا، يعتبر الشيخ شمس الدين أن غياب الإمام الثاني عشر لم يعط النيابة للفقهاء، بقدر ما أعطى الأمة بمجموعها لكي تنوب عنه في ولايتها على نفسها، وهي النظرية التي اضطلع بمشروعها تحت اسم (ولاية الأمة على نفسها). فبدلا من أن يضطلع فقيه واحد بسلطات الإمام المطلقة وهو ليس بمعصوم، فإن الأمة نفسها ترث تلك السلطات بصفتها نائبة عن الإمام، وولية على نفسها، لأن المعصومية تتحقق فيها، بصفتها الجمعية. إن من الخطأ الكبير، الذي لا نزال نقع فيه، إن على مستوى الإعلام، أم على مستوى الحديث بشكل عام، أننا لا نفرق، عند الحديث عن الشيعة، بين المعتدلين من الإمامية، الذين رفضوا، ولما يزالوا، ولاية الفقيه الخمينية، وبين المغالين الذين نصروها. كما أننا من جهة ثانية، لا نفرق بين الإمامية الإثني عشرية كمذهب ضمن المذاهب الشيعية، وبين الشيعة غير الإمامية، كالإسماعيلية والزيدية. ومن ثم، فإن ثمة تيارا عريضا من الشيعة الإمامية، ناهيك عن الشيعة غير الإمامية الاثني عشرية، لا يعترفون بولاية الفقيه المطلقة التي دشنها الخميني، وعلى الدول والاتجاهات السنية ألا تنظر إلى الإمامية الاثني عشرية كلهم، فضلاً عن طوائف الشيعة الأخرى، بأنهم متبعون لنظرية ولاية الفقيه الخمينية، وموالون لإيران.
مشاركة :