النسخة: الورقية - دولي يحيي العالم بأسره بعد أسابيع قليلة مرور قرن كامل على اندلاع الحرب العالمية الأولى، والتي شكلت في حينه نقلة نوعية من حيث رقعة الحرب والحجم غير المسبوق للخسائر المادية والبشرية الذي أدت إليه وتحولاتها وتحالفاتها ونتائجها العالمية والأوروبية. وهناك الكثير الذي ما زال يكتبه الباحثون والمؤرخون عن تلك الحرب العالمية الأولى، وسيظلون يكتبونه حيث إن الدروس المستفادة منها لا تنتهي، بل إن التسمية الخاصة بها ذاتها اختلفت من طرف إلى آخر، فبينما أطلقت عليها الكتابات التقليدية للعلوم السياسية في الغرب تعبير «الحرب العالمية الأولى»، أطلقت عليها الأدبيات اليسارية تعبير «الحرب الامبريالية» إشارةً إلى أنها كانت بين قوى استعمارية غربية حول مغانم، أساساً في بلدان العالم الثالث. ولكن في حدود ما يمكن تناوله هنا، يبقى الدرس الأول أن دولاً متقاربة في أيديولوجياتها ونظمها القيمية ومرجعياتها الثقافية ونظمها السياسية، قد تتحارب. ونذكر أن الثورة البلشفية في روسيا لم تكن قد اندلعت بعد لدى بدء الحرب العالمية الأولى في حزيران (يونيو) 1914، بل اندلعت في تشرين الأول (أكتوبر) 1917، أي خلال الحرب، لتجسد أول تناقض أيديولوجي في اوروبا في التاريخ الحديث. فالواقع أن الحرب الأولى بدأت، كما أصبح واضحاً بعد اندلاعها بفترة ليست بالطويلة، لأسباب تتعلق بالصراع على مناطق النفوذ، أو بلغة تلك الأيام، الاستعمار المباشر، تحت عنوان «الانتداب». ويأتي هذا الاستنتاج خلافاً للمقولة التي يحاول البعض الترويج لها اليوم، وهي أن الدول لا تذهب إلى الحرب إلا إذا تناقضت أيديولوجياتها ونظمها، من دون الحديث عن توازنات المصالح أو القوى. أما ثاني الدروس وهو يتصل بالأول، فإنه خلال تلك الحرب العالمية الأولى شهدنا اتفاق «سايكس بيكو» واتفاقية «سان ريمو» بشأن اقتسام مناطق النفوذ ودوائر الاستعمار في المنطقة العربية بين الدول الرئيسة في أوروبا، بخاصة التي كانت قد بدأت تتوقع انها ستخرج منتصرة من الحرب. وقد ارتبط هذا التقسيم بعملية تفتيت للبلدان العربية ورسم حدود وخرائط جديدة بها ولها. واليوم ما أشبه الليلة بالبارحة، بخاصة على الساحة العربية، حيث بدأت بالفعل تباشير تنفيذ مخططات التقسيم والتفتيت، والتي يرجعها البعض الى الحرب الاهلية اللبنانية منتصف السبعينات من القرن الماضي، بينما يرجعها آخرون إلى غزو العراق عام 2003. ولكن الثابت أن هذه الحالة تتصاعد، بل تتضاعف، فيما تتردد الأحاديث والتحذيرات بشأن ما يطلق عليه البعض اتفاق «سايكس بيكو- 2» بواسطة قوى دولية وأخرى إقليمية من خارج المنطقة العربية. أما الدرس الثالث والذي يبقى مهماً حتى الآن، فإن تلك الحرب أثبتت أن الحروب، والتي تنشأ أصلاً بحجة حل مشكلات وتسوية صراعات، تؤدي بعد أن تنطفئ جذوتها إلى المزيد من المشكلات والنزاعات، وغالباً ما تقود إلى صراعات أكثر اتساعاً وتعقيداً من الحروب التي بدأت تحت شعار إنهائها. وقد تأكد هذا الدرس نفسه لاحقاً، سواء عبر الحرب العالمية الثانية، أو حروب أخرى تالية في أقاليم العالم المختلفة. فالحرب الأولى أدت نتائجها إلى المرحلة الجنينية من التمهيد لاندلاع حرب عالمية أخرى بعد حوالى عقدين فقط. ورابع الدروس وآخرها في هذا السياق، هو ما ينجم عن الحرب من شكل للتنظيم الدولي، وهو ما يكون أسيراً، في جزء كبير منه، لنتائج تلك الحرب، ومن ثم يتصف بأوجه قصور سرعان ما تبدو أوضح للعيان بمرور الزمن وتغير الظروف والبيئة الدولية المحيطة، بحيث يتعاظم أثر هذا القصور ويزداد تأثيره. فعصبة الأمم التي نشأت في أعقاب الحرب الأولى كإطار للتنظيم الدولي العالمي الجامع، سرعان ما كشفت عن مساوئها وحدود فاعليتها، الأمر الذي أدى إلى اندلاع الحرب الثانية، وحتى الأمم المتحدة التي نشأت لترث عصبة الأمم ونتجت هي الأخرى من حرب عالمية، ولكنْ ثانية، كانت بدورها أسيرة مخرجات تلك الحرب. فبمرور الوقت تزايدت الانتقادات لها، ومنذ النصف الثاني من الثمانينات صرنا نرى آليات داخل المنظمة الدولية للعمل على إصلاحها، إضافة إلى دعوات من خارجها للغرض نفسه، ولكن ربما في اتجاهات أخرى. وهي دروس لا تزال لها دلالاتها، إما في عالمنا اليوم بشكل عام أو على صلة بالحالة العربية الراهنة. * كاتب مصري
مشاركة :