كانت زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى واشنطن ناجحة بطابعها البروتوكولي والرسمي فقد اكتست وبحق طابع زيارات رؤساء الدول من حيث الحفاوة. فالرئيس دونالد ترامب، أستقبل الرئيس أبو مازن ووفده المرافق بكل الود والاحترام، وهي زيارة رسمية مكتملة الأركان لرئيس دولة بكل ما للكلمة من معنى، وزادها بعداً سياسيا ورسميا رفع العلم الفلسطيني لأول مرة في البيت الأبيض وإذا أخذت الزيارة بالمجمل فيمكن مقارنتها بزيارات رؤساء دول أخرى مستقلة إذ لم يكن ينقص اكتمال المشهد فيها كي تصبح زيارة رسمية، إلا مرافقة السيدة أم مازن حرم السيد الرئيس للرئيس. إذن ما الذي حدث وما سبب هذه الحفاوة المفاجئة هل الرئيس ترامب قد غير مواقفه من عشق إسرائيل وتحول إلى عشق الفلسطينيين؟ أم أنه قرر مساواتهم باليهود أصحاب النفوذ والسطوة في أميركا؟ حيث أن الصحف العبرية شبهت الاستقبال بأنه يشبه استقبال زعماء أميركا لقادة إسرائيل! ما عدا ما بدا؟ لماذا كل هذا؟ بالتأكيد لم تكن الزيارة فاشلة كما تمنت وتكهنت بعض الأطراف الفلسطينية والإسرائيلية، ومن يقول أنها فاشلة لا يفقه بالبروتكول الرسمي ولا بقواعد المراسم والتشريفات، فقد كانت زيارة ناجحة على هذا الصعيد وإذا كانت ناجحة وفق هذا المفهوم الشكلي فهي أيضاً ناجحة وفق المفاهيم الأخرى. لماذا أقول ذلك؟ لأن هذا الاستقبال الذي يحاكي استقبال رؤساء الدول هو استقبال لرؤساء الدول بمعنى أن الإدارة الأميركية بقيادة الرئيس دونالد ترامب مُصرة على "صفقة العصر" الموعودة التي ستنتهي بحل الدولتين أو بحلول أخرى ستكون مرضية للفلسطينيين إلى حد ما وفق ما يطلق عليه بالثوابت أو احتوته المبادرة العربية، وهي أي إدارة ترامب عندما ترحب بضيفها الفلسطيني هذا الترحيب فإنها تعني ما يحمله من إشارات وإيحاءات سياسية، أي أن فلسطين دولة أو هكذا يجب أن تكون، هذا ما يمكن فهمه من الطابع الرسمي للزيارة بكل تفاصيلها المراسمية والتشريفية. أما ماذا حققت الزيارة غير هذا الشكل الذي رأينا؟ فلا شيء واضحا إلا ما قاله الناطق باسم البيت الأبيض وما تسرب إعلامياً. على الصعيد السياسي العملي علمنا أن الرئيس وفريقه قد أصروا على أن حل الدولتين هو الحل الوحيد الممكن والمقبول فلسطينياً وهو الحل الوحيد القابل للإنجاز إذا كانت الإدارة الأميركية الحالية جادة في صنع السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ومن الجانب الأميركي لم نشهد مطالب تعجيزية كتلك التي قيل إن جيسون غرينبلات مبعوث ترامب لعلمية السلام قد طلبها من الرئيس أبو مازن، لكن بنداً منها قد طالب به ترامب بالفعل وهو الخاص بوقف تمويل عائلات الأسرى والشهداء وكذلك وقف التحريض ضد إسرائيل وهي مطالب تحدثت عنها أطراف فلسطينية قبل الزيارة وبعدها ولكنها ووجهت برفض واستهجان فلسطيني عبر عنه مستشار الرئيس لشؤون العلاقات الدولية الدكتور نبيل شعث والسيدة حنان عشراوي عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. إذن وبعد هذه المواقف الفلسطينية الجادة، لماذا كل هذه الحفاوة بالرئيس عباس طالما أن هناك خلافا وأن الرئيس يرفض الشروط الأميركية؟ الجواب جاء خلال المؤتمر الصحفي للناطق باسم البيت الأبيض الذي تحدث هو ورئيسه من قبل وأشاد بالتعاون الأمني الفلسطيني وأن هناك خدمات يقدمها الجانب الفلسطيني للجانب الأميركي على هذا الصعيد. لا ندري طبيعة هذه الخدمات أو هذا التعاون ولكننا نعلم أن مثل هذا التعاون كان موجودا منذ السبعينات وأن من بدأه هو الشهيد أبو حسن سلامة بقرار من لجنة فتح المركزية وهذا التعاون موجود مع كل دول العالم وهو مفيد للفلسطينيين ومفيد للأميركين أيضاً وكما أفادت تقارير حول اللقاء فإن المقصود هو تعاون في مكافحة الإرهاب الداعشي وكل ما هو على شاكلته وبكل تأكيد فإن التنسيق الأمني الفلسطيني الإسرائيلي هو جانب هام في هذا السياق من التعاون. إذن لم يكن مصدر الحفاوة عطفاً أميركيا على الفلسطينيين بل تقديرا لجهودهم في المجال الأمني وهذا أمر هام لرئيس أميركي جعل من محاربة الإرهاب (الإسلامي) هدفاً رئيسياً من أهداف سياسته الخارجية. من مفاجئات الزيارة أيضاً أن الرئيس محمود عباس والسيد خالد مشعل يعتقدان أن ترامب قادر على إنجاز حلاً للقضية الفلسطينية بصفته رئيساً قوياً، وإذا كان الرئيس أبومازن يعتقد ذلك فهذا منطقي لأنه رجل يعيش على الأمل منذ أتخذ المفاوضات وسيلة وحيدة وخيارا وحيدا لاستعادة الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية المتمثل بدولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران عام 1967. الغريب أن زعيم حماس وبعد إصدار الوثيقة السياسية لحركة حماس (توصف بالوثيقة الانفتاحية على العرب والعالم) يتحدث بنفس اللغة. حماس التي ساهمت في تعطيل مسيرة السلام وتخريب المفاوضات الاميركية الفلسطينية في أعوام التسعينات تنتقل إلى مربع الرئيس أبو مازن ونراهن على ترامب وتدعوه لالتقاط اللحظة، في مفارقة حماس للماضي واقترابها من الواقعية ورغبتها في السلام والقبول بالحلول التي لطالما رفضتها واعتبرتها تفريطية بل وخيانية من قبل شقيقتها حركة فتح. حماس التي تراهن وتغرد من خارج السرب دعت لمظاهرات لدعم الاسرى عشية الزيارة وحولتها إلى مسيرات غضب من الرئيس وإجراءاته ورفعت شعارات ويافطات تقول عباس لا يمثل إلا نفسه في إشارة للرئيس ترامب وإدارته بأن لا يعولوا على الرئيس عباس في صنع السلام. نجحت الزيارة وكتب ترامب تغريدة على تويتر أشاد بها بالرئيس أبو مازن وحكمته وأمتعض منها قادة إسرائيل فحُذفت، حذفها يعني أن اللوبي اليهودي والمسيحي الصهيوني الحليف مازالا مُسيطرين على الرئيس ترامب وأنه ليس متحررا منهما ولكنها تعني أيضا أن الرئيس ترامب أصبح لديه مشاعر ما، نحو تفهم قضية الشعب الفلسطيني ونضاله وهذا مؤشر جيد ولكنه ليس حاسما بما يكفي ليكون محايدا على أقل تقدير كما وصف نفسه يوما في بدأ حملته للحصول على ترشيح الحزب الجمهوري للرئاسة. لا يمكن لأحد أن ينكر أن الرئيس أبو مازن وخلال رئاسته حقق كثيراً من الإنجازات على صعيد العلاقات الدبلوماسية الثنائية والمتعددة أي على صعيد الدول والمنظمات الدولية، ولكن يبقى أنه أخفق بسبب التعنت الإسرائيلي من التقدم خطوة واحدة فوق ما أنجزه ياسر عرفات على صعيد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. مرحلة أبو مازن حتى تاريخه هي مرحلة الانتصارات المعنوية في الجمعية العامة واليونيسكو وغيرها وهذا يحسب له ولكن هناك الكثير مما يحسب عليه وأهم ما يحسب عليه أن في عهده حصل الانقسام وهو يعي ذلك، لذلك يحاول اليوم استعادة الوحدة كي يهيئ الظروف لما يأمل به وهو تحقيق تقدم في عملية السلام التي كرس حياته لأجلها وتحمل النقد والتخوين والتجريح، بدأ أبو مازن طريقه الذي أختاره منذ بدأ ثائراً في قيادة حركة فتح في نهاية الستينيات من القرن الماضي وعلى ما يبدو سيبقى سائرا فيه ما بقي له من حياة فهل سينجح؟ تساؤلات برهن المستقبل القريب لا البعيد. د. علاء أبو عامر كاتب وباحث وأكاديمي من فلسطين
مشاركة :