يعرف المصابون بالاكتئاب الذي يتكرَّر، أو الذي لا يفارقهم، أنه كالوقوف في عرض البحر لا يلبث الموج أن يغطيك ويسحبك لداخله، موجة بعد الأخرى، دون فاصل زمني تتنفس فيه، وإن كنت محظوظاً تنال بعض الوقت قبل أن تغطيك الموجة القادمة، يختلف الحزن عن الاكتئاب في أن الحزن كالوقوف على الشاطئ، لا ينالك من البحر إلا ما يبل قدميك ثم ينحسر. حين يصاب الناس بموجة الاكتئاب، البعض يكون شجاعاً للغاية فيقاتل ويستمر بالقتال، البعض الآخر يكون أكثر شجاعة فينهي الأمر ويغادر، يقاتل الناس بالأصدقاء وبالعائلة وبالحب وبالمال وبالصلاة وبالنزوات الصغيرة أو الكبيرة، وبالهروب هنا وهناك، يختار البعض أن يذهب للطبيب، أقول لك لا تفعل سيسمعك أولاً، ثم يعطيك الدواء، ثم تعود إليه. فتُكرر الكلام نفسه، ويكرر الردود نفسها، وعقلك يفعل هذا طوال الوقت بك. ابتداء دع هذا كخطوة أخيرة حتى يظل لديك ذلك اليقين أنه يمكنك الشفاء، وأنه حين تتعقد الأمور ستذهب للطبيب، ولن تعرف أبداً متى تعقدت الأمور ومتى وصلت للحافة ومتى أوشكت على المغادرة. أقول لك أيضاً لا تتكلم، لن يفهم أحد، لا أحد هنا يجيد الفهم، هناك الوعظ، وهناك هزّ الرأس بأسى، وهناك تذكيرك بأنك لا تملك أسباباً عظيمة لكي تكتئب، وكأنك اخترت هذا، وكأنك استيقظت اليوم ففتحت دولابك وقلت حسناً، سأرتدي اليوم الاكتئاب. لا أحد يفهم معنى اللاشيء الذي ينخر بداخلك، لا أحد يعرف كيف تناضل لتفعل الأشياء العادية التي يفعلها الناس، كالخروج من السرير وإعداد كوب من القهوة، وكيف تناضل لكي لا تبكي في منتصف الشارع دون أسباب واضحة، لذلك يرافقك الاكتئاب كصديق وفيِّ، يدعى الهشاشة، تكون ساقاك أضعف من حشائش الأرض، لا يمكنهما إسنادك للمضي في أي طريق. تقول لي صديقة إنها حين غطَّتها موجة الاكتئاب ناضلت للخروج من سريرها والمشي في الشارع، حين خرجت سمعت المؤذن ينادي لصلاة الجنازة على واحد لا تعرفه، عادت للبيت واستمرت بالبكاء. تفقد الأشياء قيمتها بالتدريج، الطعام والأصدقاء والملابس والمال والصلاة والسفر والعائلة، كل شيء يفقد قيمته، ويغطيه الصدأ، مع الوقت تحاول أن تستنجد بما كان يسعدك سابقاً، فلا يرتد لك إلا البرد والصدأ، إلا أن الاكتئاب يمكن تطويعه بين حين وآخر، كم السوداوية الذي نحتاجه لنكتب شيئاً معبراً ويلمس القلوب، لا يأتي إلا من موجة اكتئاب قوية، لم تخرج لوحة الصرخة إلا من حزن مريع وحشي يبتلع كلَّ من ينظر للوحة، لم يصل صوت أديل إلا للحزن الطاغي فيه، لا أمجّد الاكتئاب هنا، لكن أخبر مَن مسَّه طيف منه بأنه قد يدرك منه ما ينفعه. يقول الأطباء نفس النصائح: صلِّ، اعمل، تناول طعاماً صحياً، تناول الدواء بانتظام، اجعل لك أصدقاء، يكرر النصيحة ذاتها لعدد لا نهائي من المرضى، ثم يشعر بأنه ساعد الناس، لكن المرض كله في كوني غير قادر على الصلاة، وغير قادر على الرياضه، ولا يعنيني الأكل، ودواؤك لا يفعل شيئاً سوى عدد لا نهائي من الأعراض الجانبية، التي يصير الاكتئاب بجانبها لطيفاً رفيقاً. يذهب الناس معتقدين أنه ساحر، ما الذي قد يصنعه الطبيب في قدمي التي لا تحملني للنهوض لأي شيء، ماذا سيفعل الطبيب في نوبات البكاء بعد الثانية ليلاً. لا يفهم الطبيب أن الخوف والاكتئاب والقلق والأرق كلها صارت أذكى منه، وطورت دفاعاتها، فلا تُصلح أدويته ما فسد ولا تساعد في شيء، لا أحد يساعدك سوى نفسك وحدها، هي التي تستطيع مساعدتك حين تقرر أنها ترغب في إكمال هذا الطريق، حين تقرر أن ساقك يمكنها تحمل كل مضارب الجولف التي تهاوت عليها دون رحمة، وهشَّمتها دون شفقه، فما الذي تحتاجه نفسك لتقف بجانبك، تحتاج أن تقبلها بشكل غير مشروط، وتتقبل أنها تصاب بالوهن، وأنها تمرض وتحتاج الراحه، تحتاج منك أن تتعهد لها بأن تحميها من الحزن قدر استطاعتك، لكنك لا تملك أن تكفَّه عنها تماماً، تحتاج منك أن تخبرها بأن كل هذا مؤقت رغم تكراره، لكنه زائل. من المهم أن تدرك ابتداء هل أنت مريض بالاكتئاب، أم أنها موجة مدٍّ عابرة تصيب قدمك ثم تنحسر، وإن كانت كذلك فلا داعي للتظاهر بأن الأمر أكبر من ذلك، هذا لن يساعدك، والاكتئاب ليس توجهاً عاماً لتدعيه مع أول طيف حزن يمسّك، وإن كانت موجة غامرة لا تفارقك أو تفارقك وتعود دون توقف فلا داعي لتجاهلها، هذا فعلاً لا يفيد، اطلب المساعدة إن كنت عاجزاً عن مساعدة نفسك، أو ساعد نفسك إن كنت قادراً على ذلك، أو افعل الاثنين معاً، اطلب المساعدة، وساعد نفسك، لا تستمع للحديث أعلاه عن قلة جدوى الطبيب، الحديث أعلاه كُتب تحت تأثير موجة غامرة، إن كنت تعاني من الاكتئاب توجَّه للطبيب. المقال لن يفيدك بشيء سوى إخبارك أنك لست وحدك، هذا هو الجزء الوحيد الذي ينبغي أن تستفيد به من السطور الماضية، فيما عدا ذلك لا تستمع للمقال الذي يُكتب تحت تأثير موجة اكتئاب غامرة، بل لا تستمع لنفسك حين تكون تحت تأثير الموجة. أكرِّر، توجَّه للطبيب واتبع تعليماته، وتكلم بما في خاطرك كما فعلت أنا في الأعلى، لا يجب الخجل من سوداويتك أو حزنك المتكرر أو قلة الرغبة لديك لفعل شيء، لكن ما يجب فعله حقاً هو مساعدة نفسك بالطريقة التي تفضلها، الشيء المخجل هو التوقف عن محاولة مساعدة نفسك. يسعدني كذلك أن أخبرك أن الاكتئاب ليس بسبب ذنوبك، ولن ينتهي حين تصلي، لا شك أن الصلاة والعلاقة الروحانية بين الله وبينك ستساعدك في مواجهة الاكتئاب العابر، وكذلك المزمن، لكن في حالات مرضية بالفعل قد تصلي وتصوم وتقوم الليل، ولا يساعدك ذلك بالشكل الكافي، وتبدأ سلسلة طويلة من لوم نفسك على علاقتك مع الله، وهذه ثيمة خاطئة، تم تصديرها لنا لإلصاق كل نقص وخلل في حياتنا بالعلاقة مع الله. يصيب الاكتئاب العُبَّاد والنُّساك والرهبان كما يصيب الفسَّاق، هذا أمر يدور كله في عقلك وكيميائه. الوعي المجتمعي بمرض كالاكتئاب بلا شك يساعد في معالجة المرض، والأخذ بيد المريض، لكن ما قيمة الحديث عن أمر كهذا في بلاد لا يكفي فيها الفرد تحصيل قوت يومه، ولا يجد فيها مسكناً يناسبه، الحديث عن الوعي هو ضرب من الرفاهية، أي وعي قد يتشكل لدى أشخاص يعملون كتروس في مكينة مهلكة، وإذا تشكل هذا الوعي، ما الذي قد يفعله به صاحبه، أتخيل العامل الذي لا تزيد يوميته عن دولار يستأذن مديره في يوم إجازة؛ لأنه يشعر ببوادر اكتئاب، هذا أمر مضحك بلا شك، وغير منطقي، الذي يمكنني قوله هنا إنك إن كنت محظوظاً وصرت تملك الوعي الكافي والتقبل وعدم الوصم للعرض النفسي الذي قد يصيبك، فتمنَّ على الله أن تكون محفظتك محظوظة لطلب المساعدة الطبية، وتمنَّ كذلك أن تكون محظوظاً كفاية لتجد الطبيب المناسب. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :