«صباح الخير يا بابل» للأخوين تافياني: ... طاب يومك أيها الفن الجميل!

  • 5/21/2014
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

النسخة: الورقية - دولي كان واحداً من أبرز ما حققه المخرجان الإيطاليان باولو وفيتوريو تافياني في تاريخهما المتواصل منذ ثلث قرن وحتى اليوم، فيلماً جعلا عنوانه «صباح الخير يا بابل» واعتُبر فور عرضه نوعاً من تحية للسينما وهوليوود... بابل العصر، كما اعتُبر في الوقت نفسه تحية للأخوّة والحب والصورة والفن الذي لا يموت. أما العبارة التي بقيت في أذهان متفرجي الفيلم، ولا تزال تطنّّ في آذان كثر منهم حتى اليوم من دون ريب، فهي تلك التي جاء فيها: «أنا جد جد جد جد جدي كان اسمه مايكل أنجلو وليوناردو، فمن هو جد جد جد جدك؟ من تعتقد نفسك يا ترى؟». هذه العبارة يقولها والد أخوين إيطاليين فنانين هما بالطبع غير مخرجي الفيلم، في واحد من المشاهد/ المفاتيح في فيلم الأخوين تافياني هذا. وتأتي أهمية هذه العبارة من كونها تقال في وجه المخرج الأميركي الكلاسيكي غريفيث الذي هو في الفيلم واحد من شخصياته، وكان المعني بها طبعاً أن الأميركي غريفيث هو - ككل أبناء جلدته الأميركيين - لا أصل له، فيما للإيطاليين أصول عريقة عتيقة تمتزج فيها الحضارة بالفن. وقد لا نكون في حاجة إلى القول إن هذه العبارة صنعت جزءاً أساسياً من شعبية الفيلم منذ عرض في دورة مهرجان كان لعام 1987، فنال تصفيقاً ونجاحاً لم يكن قد سبق لأي فيلم آخر من أفلام الثنائي الإيطالي تافياني أن حققهما، فأفلام الأخوين تافياني، على رغم تميزها في الموضوع وجمالها الشكلي الأخاذ، كانت دائماً من الأفلام التي لا تلقى حظوة كبرى لدى الجمهور، مع أن الأخوين اعتبرا أفلامهما على الدوام أفلاماً شعبية، ولكن كانت الهوة كبيرة بين أن تصنع فيلماً للشعب، وبين أن تُقنع الشعب بأن يأتي لمشاهدة هذا الفيلم. من هنا، أتى النجاح الكبير لـ «صباح الخير يا بابل» مفاجئاً على أكثر من صعيد، ووضع الأخوين باولو وفيتوريو يومها في واجهة الأحداث السينمائية. فما الموجود في هذا الفيلم حتى يحقق كل هذا النجاح؟ > أولاً نبادر إلى القول إنه ربما كمن سرّ «صباح الخير يا بابل» في أنه جاء الأبسط ربما، والأكثر اقتراباً من حميمية الناس من بين كل ما كان حققه الأخوان... بل وربما كان فيه شيء من الميلودرامية المحببة. لكن هذه العناصر إذ تأتي في الفيلم لتشتغل على علاقة الجمهور به، فإنها أبداً لا تشكل منه موقع الأساس، فالفيلم يشتغل على مستوى آخر: هو فيلم عن الفن وعن النور وعن الجمال وعن الأخوّة والتضامن، ولكن قبل كل هذا هو فيلم عن الصورة، فيلم يخيّل إلينا أنه ينطلق أساساً من فكرة أن الفن يعيش دائماً أكثر من موضوعاته الحية، لذلك فالصورة أكثر حياة وأبقى من الكائن الحيّ المصور. فكرة بسيطة كالبديهة... غير أن الأخوين تافياني لم يسلِّما ببساطتها وبداهتها، بل انطلقا منها ليصنعا شريطاً أخّاذاً، ربما كان – ولا بد من تكرار هذا - أجمل تحية قدمتها السينما للفن وللصورة. > يحكي لنا الفيلم حكاية الأخوين الحرفيين نيقولا وأندريا اللذين مع انتهاء والدهما من تزيين آخر كنيسة عُهد بها إليه وترميمها، ومع حلول أزمة عمل تكاد توردهم جميعاً مورد البطالة، يقرران الذهاب إلى أميركا ليجمعا من الثروة ما يعودان به لإنقاذ المؤسسة العائلية. يعدان والدهما بهذا ويرحلان، وكالعادة في أميركا، يواكبهما البؤس ويهلكهما المنفى، من خلال أعمال تافهة يقومان بها حتى يقيَّض لهما من يأخذهما صدفةً للعمل في الجناح الإيطالي بمعرض سان فرانسيسكو، وهناك يكتشفان أن المخرج الأميركي الكبير غريفيث في حاجة إلى من يساهم في بناء أفيال مجسدة لديكور فيلمه «تعصب»، فيتنطحان للأمر زاعمين أنهما معلمّان كبيران في فن الديكور السينمائي. لكن أمرهما ينكشف ويكادان يُطردان لولا تدخل عاطف عليهما، فتُسنَد إليهما أعمال صغيرة، حتى اللحظة التي يبنيان فيها بالغابة فيلاً على النمط الذي يريده غريفيث ويقيَّض للفيل من يصوره. هكذا، يشاهد غريفيث بعد دماره صورة الفيل، فيقرر أن يقوم صانعاه بالعمل في الديكور، فيتحقق لهما الحلم الجميل ويصبحان فنانين معترفاً بهما ويصيبهما النجاح ويتزوجان فتاتي كومبارس ويستقدمان الأب إلى هوليوود، حيث تقوم بينه وبين غريفيث مجابهة سجالية رائعة... وتسير الأمور بعد ذلك بسلاسة حتى تعلَن الحرب الأولى، وتلد زوجتا الأخوين فتموت إحداهما، فيغضب زوجها ويقرر الافتراق عن أخيه ويعود إلى إيطاليا لخوض الحرب. وينتهي ذلك كله بالأخوين وقد التقيا قرب الكاتدرائية في معمعان المعركة في توسكانا، إنما كلّ منهما في جانب... ويصور بعضهما بعضاً ثم يُقتلان. > من المؤكد أن هذا التلخيص لحكاية الفيلم لن يقول شيئاً كثيراً عن الفيلم نفسه، لأن «صباح الخير يا بابل» ليس حكاية تروى، بل هو مناخ بصري في المقام الأول. مناخ يقوم أولاً على مبدأ التلاحم بين الأخوين (هل هي إشارة إلى التلاحم بين مخرجَي الفيلم نفسيهما؟)، وعلى مبدأ التصادم بين العالمين، القديم والجديد (جمالية النهضة الإيطالية مقابل آلية العصر الأميركي الجديد)، وعلى مبدأ السينما كفن جديد يأتي ليحل في أسلوبيته الجماعية محل الفنون الحرفية القديمة (وذلكم هو فحوى الخطاب الرائع الذي يلقيه غريفيث خلال استقبال الأب الإيطالي). غير أن الفيلم قبل هذا كله ينطلق من فكرة أبدية النور، وبالتالي خلود الصورة التي هي وليدة النور... فمنذ مشهد الكاتدرائية الأول حتى تصوير الأخوين بعضهما («لأننا بالصورة سنخلد»... يقول أحدهما) في آخر مشهد في الفيلم، يجول بنا المخرجان وسط هالة النور ودلالاتها، وبالتالي وسط دلالة الصورة وأبديتها، فمجسم الفيل حتى ولو تدمر – بفعل شياطين أشرار – قبل رؤية غريفيث له، لن يهم طالما أن صورته التقطت قبل ذلك، وغريفيث سيرى الصورة ويتحقق الأمل. هالة النور بعد انجلاء الضباب هي أول ما يطبع أول لقاء للأخوين مع المناخ الهوليوودي، وعبر النور الآتي من سقف البلاتوه خلال التصوير، سيغرم الأخوان بمن ستصبحان زوجتيهما. الصورة هي النور، والسينما هي النور، لكن الفن كله هو النور. ذلكم ما يقترحه علينا الأخوان تافياني. من هنا، يتجلى الفيلم، في جانب رئيسي منه، كتحية لفن السينما، هذا الفن الذي رسم صورة بالنور لتاريخ البشرية كله، وللقرن العشرين في أبدع تجلياته. > لكن الفيلم يقدم نفسه كذلك نشيداً للتلاحم والسعادة... وهو إذ يفعل ذلك لا يفوته أن السعادة لا تأتي إلا مجروحة، وأن التلاحم سيكون له يوم وينتهي، ولكن لأسباب خارجة عن إرادة الأخوين (مرة بسبب سكين يربحها واحدهما دون الآخر، ومرة بسبب موت زوجة أحدهما دون زوجة الآخر...). إنه القدر في المرتين، لكن العواطف البشرية تستجيب مستسلمة لتحدي القدر هذا، فيحدث الفراق الأول (عبر ضربة خنجر) ثم يأتي الفراق الثاني. ولكن أياً من الفراقين لن يكون مكتملاً، لأن مهمة الإنسان أن يقف في وجه قدره، وذلكم هو مغزى استخدام موسيقى فردي (من أوبرا «قوة الأقدار») في أكثر لحظات الفيلم إرباكاً، فالأخوان يصران دائماً على تحدي قدرهما. وهما يتحديانه حتى الفناء والموت حين يصور بعضهما بعضاً لكي تخلد ملامحهما مطبوعة على الصورة إلى أبد الآبدين. > ترى أيقول لنا الأخوان تافياني هنا شيئاً آخر غير إيمانهما بأن الفن هو دائماً وأبداً الطريق الأكثر منطقية وإمكانية للخلود؟ فإذا كان الإنسان الإغريقي لدى هيغل قد خلد من خلال مدينته، فإن الإنسان الحديث سيخلد من طريق الفن، وبالأولى من طريق الصورة/ السينما. ولأن الأمر كذلك، لا بد للفن من أن يحيي الصورة والسينما، وذلكم ما يفعله باولو وفيتوريو تافياني في تقديمهما أجمل صورة لهوليوود وأروعها في صباحاتها الأولى، مع التفاتة إلى غريفيث مخرج هوليوود الكبير، حين يقرر تبديل أسلوبه السينمائي كله إثر مشاهدته فيلماً إيطالياً كبيراً هو «ليالي كابيريا». لقد أتى هذا الفيلم حينذاك تحية لهوليوود وسينماها، ولكن أكثر من هذا تحية لإيطاليا، فحتى حين يصنع الأخوان تافياني فيلماً أميركياً، لا يفوتهما أن يجعلا مفتاحه الأساس عبارة تقول: «أنا جدي كان مايكل أنجلو... فمن كان جدك يا مستر غريفيث؟!».

مشاركة :