سيدتان إنكليزيتان عاشتا في مصر في نهاية القرن التاسع عشر، واندمجتا في المجتمع المصري بمختلف شرائحه. ليدي جوردون قضت أطول فترة قضاها أوروبي في صعيد مصر، وهي جاءت إليها في العام 1862 وسجلت ملاحظاتها المتعاطفة في رسائل بعثت بها إلى عائلتها تقدم صورة لمصر لم يستطع أن يجاريها فيها أحد. توافق وصول ليدي جوردون إلى مصر مع تولي إسماعيل باشا الحكم ليواصل جهود محمد علي المندفعة لبناء الدولة ويصل إلى مستويات من استغلال شعبها ويقوض النخبة الدينية والريفية. كذلك توافقت سنوات إقامتها في مصر مع العمل في شق قناة السويس التي افتتحت في العام الذي توفيّت فيه (1869) لذلك حفلت رسائلها بمظاهر ما تعرض له الشعب المصري من قسوة الحكام ومن ظلم النظام وعدم كفاءته وأساليب التجنيد الإجباري وتفريغ الريف من سكانه. كتبت إلى زوجها عام 1863: «إن كل فرد يلعن الفرنسيين هنا... إن 40000 يعملون في قناة السويس عند حد المجاعة وثمة احتياج وتخوف كبير حول ما سيفعله الباشا الجديد». كما وصفت وقعَ قسوة الضرائب التي فرضها إسماعيل عام 1867 بعد انخفاض أسعار القطن نتيجة عودة القطن الأميركي إلى السوق العالمية، «حتى الوجهاء دخلوا السجن بعد أن وجدوا من المستحيل على الفلاحين دفع الالتزامات المطلوبة. تحوَّل ملاك الأرض إلى مجرد مشاركين في المحصول». وكتبت لأمها: «إنه لشيء مثير حين يكشف صديق عن ملابسه ليظهر قروح السلاسل حول عنقه». وبدت التغيرات التي شهدتها مصر في تلك الحقبة أفظع مما تستطيع تحمله، «إنني أتذكر ما طالعته عيناي من نافذتي عند وصولي من مناظر طبيعية جميلة. كان المكان يعج بالبشر والحيوان. أنظر الآن إلى مظاهر الضياع المفزع أمامي، فأشعر بمدى ثقل قدَم الحاكم». كما تصور في رسالة أخرى قسوة الحياة على الناس: «في يوم قد يجد الإنسان طعامه وفي يوم آخر لا شيء على الإطلاق. الأطفال يرتجفون من سوء الطعام والقذارة وكثرة العمل». لخصت ليدي جوردون خبرتها في مصر وحياتها بين شعبها بقولها: «حين أجلس الآن مع الإنكليز أشعر وكأنهم أجانب بالنسبة إليّ»، وهكذا فإني أشعر الآن تماماً بأني بنت البلد هنا. والواقع أن هذ الخبرة كانت نتيجة معايشة يومية للواقع المصري والالتصاق بكل فئاته الاجتماعية والثقافية». مثلما عاشت ليدي جوردون بين الحكام والقضاة ورجال البوليس، والمدرسين وقناصل الدول والمشايخ، عاشت في شكل أكثر التصاقاً بين الفلاحين وأكلت معهم وجلست بينهم وبين الجِمال، تأكل اللبن الرايب والبلح، وغشيت حفلات الزواج والذكر والمآتم، وشاركت وراقبت المناقشات المدينية، واستمتعت بصحبة النساء المصريات وأطفالهن وحسن ضيافتهن، الأمر الذي أكسبها حب كل هذه المستويات الاجتماعية بخاصة الفقراء، ما جعلها تكتب: «إن الناس يأتون ويربتون على كتفي إلى حد أن طرفاً من عباءتي قد بهت من كثرة التقبيل». وعن مدى قربها من بيئتها وإقبال الناس عليها كتبت: «في القرية عوملت على أنني أجلب السعد، ولذلك فكثيراً ما يُطلَب مني أن ألقي نظرة على عروس، وأن أزور منزلاً يُشيَّد، أو أتحسس الماشية». كما كانت تشعر بالسرور حين يوكل الآباء إليها علاج أطفالهم»، في بعض الأحيان كان يتجمع عشرون أو ثلاثون فرداً خارج منزلي ويأتي العديد منهم على جِمالهم من الصحراء مما وراء إدفو، وحين أسالهم ماذا جاء بهم يجيبون أن الشاعر قصَّ عليهم أنني زهرة فوق رؤوس العرب وأن المرضى منهم يجب أن يشموا هذه الزهرة». كانوا ينفرون من طبيب الحكومة ويفضلون الموت على الذهاب إليه، وكانوا يتقبلون أي شيء من ليدي جوردون ويسمونها «الست نور على نور». كثيراً ما لاحظت ليدي جوردون في رسائلها الدرجة العالية من التسامح والتعايش بين الأديان وفاخَرت بأحاديثها مع المسؤولين، ولم يزعجها ما قد يبدو من قلق ديني، ولم تهتم بالمفاهيم التي أشاعها المستشرقون حول الإسلام الذي اعتبروه شيئاً مختلفاً تماماً عن المسيحية. وكانت ترى أن الإسلام يمر بعملية إحياء شبيهة بتجربة البروتستانتية في أوروبا، «أعتقد أنه سيحدث تغيير عظيم، لا يصبح معه الإسلام مجرد راية». واتخذت ليدي جوردون من صديقها الشيخ يوسف، أكبر مرشد لها في هذه الأمور، فقد تعلمت عليه اللغة العربية، ثم أدركت أنه ليس مجرد مدرس لتلك اللغة، ولكنه شيخ الإسلام في الأقصر كلها، وكان يمثل السلطتين الدينية والقانونية في المدينة، ولذلك لقَّنها تعاليم الإسلام، واقترح عليها أن يضعا معاً كتاباً يعلم الإنكليز أن الإسلام ليس ديناً متعصباً. ومما كتبته في هذا الصدد: «في الوقت الذي يكره فيه الأوروبي أن يدعى بالنصراني، فإنني أقول هنا بشجاعة: أنا نصرانية والحمد الله وأجد في هذا موافقة شديدة من المسلمين وكذلك من الأقباط... هنا مسلمون يصلون قرب قبر مار جرجس». كما لاحظت أن الترجمان يلقب أحد الإنكليز الذين زاروا مصر بـ «الشيخ»، وحين سألته عمن يكون أجابها بأنه القسيس الذي رافق ابن الملكة خلال زيارته مصر، وأضاف أنه «شيخ حقيقي وواحد ممن يعلمون الأمور الحقيقية للدين، لقد كان رحيماً حتى مع الجياد، وإنه لمن رحمة الله على الإنكليز أن يكون هذا إماماً للملكة والأمير». وحين سألته: كيف تتحدث بهذا الشكل عن قسيس نصراني؟ أجاب أن «مَن يحب مخلوقات الله لا بد أن الله يحبه، ليس هناك شك في هذا». وتعقب ليدي جوردون: «ليس هناك أمل في تفاهم مجيد مع الشرقيين حتى يقتنع المسيحيون الغربيون ويدركوا العقيدة المشتركة التي تتضمنها الديانتان». وتروي ليدي جوردون عدداً من الوقائع التي أكدت لها روح التسامح بين المسلمين تجاه المسيحيين، ففي أحد مجالسها جاءت سيرة الأجانب الغرباء الذين يموتون ويدفنون في مصر وما يتكلفه هذا، وقالت: «إن الذين كانوا كراماً في ضيافتي وأنا حية لن يكفوا عن هذا حين أموت، ولكن أعطني قبراً بين العرب». وردَّ رجلٌ عجوز: «أتمنى أن نرى هذا اليوم يا سيدتي، ولكنه في أي مكان ستدفنين فيه فإنك بالتأكيد سترقدين في قبر مسلم». وحين تساءلت: كيف يكون هذا؟ أجاب: «حين يموت مسلم سيء فإن الملائكة يأخذونه من قبره ويضعون بدلاً منه المسيحيين الطيبين». وتحكي عن مشهد دفن أحد الإنكليز الشبان، «تعاوَنَ الأقباط والمسلمون في حمل هذا الغريب، وفي ساعة وضعه في القبر كانت الصلوات تتلى والشمس تهبط في فيض مجيد من الضوء على الطرف البعيد من النيل، قالت امرأة من العبابدة لي والدموع في عينيها وهي تضغط على يديَّ تعاطفاً مع هذه الأم البعيدة والتي هي من جنس مختلف: هل له أم». أما السيدة الإنكليزية الثانية فهي صوفيا بول وعاشت في مصر بين 1842 و1846 مع شقيقها المستشرق المعروف إدوارد لين، وطفليها، وخلال إقامتها تعلمت العربية وارتدت الملابس المصرية التي مكنتها ليس فقط من ملاحظة الحياة اليومية في الأسواق وأن تدخل كذلك حمامات النساء وأن تتفاعل بمحبة معهن. كما استطاعت صوفيا بول أن تصل إلى أعلى المستويات الاجتماعية وسجلت خبراتها معها وفعلت الشيء نفسه مع مستويات أدنى. وعلى النقيض من كتابات شقيقها إدوارد لين البحثية الكثيفة، فإن صوفيا بول عبَّرت عن نفسها في صورة رسائل إلى صديق حملت عنوان «رسائل من امرأة إنكليزية من مصر». فإذا كان إدوارد لين ترك قاهرة ما بعد القرون الوسطى التي اختفت منذ ذلك الوقت، فإن شقيقته أكملت هذا الإنجاز الضخم بتقديم العالم نفسه من منظور نسائي.
مشاركة :