السينما وصفة مسلية في عيادات الطب النفسيالفنون تخاطب النفس والمشاعر لذلك اعتمدها علم النفس كمدخل لاسترخاء المرضى أمام أطبائهم، فالموسيقى تسهل الحوار بين الطبيب والمريض فيما يساهم الرسم والمسرح في التعبير عن دواخله، ولأن السينما تجمع بين كل هذه الفنون فقد بدأت تنتشر في العيادات كوسيلة تساهم في التواصل والمثول للعلاج خاصة في صفوف المدمنين.العرب [نُشر في 2017/05/13، العدد: 10631، ص(20)]التعامل مع المصاعب سينمائيا يشجع المرضى على الاندماج فيينا - الأفلام لديها القدرة على إثارة مشاعرنا، إذ أنها يمكن أن تجعلنا نجهش بالبكاء أو نطلق الضحكات وتشيع فينا الأمل أو تبعث الإحساس باليأس، وهذا هو السبب وراء تسخير قوة هذه الوسيلة من جانب الأطباء النفسيين. وتأتي هذه التجربة بعد نجاح تجارب مماثلة في العلاج النفسي بالاعتماد على مختلف الفنون كالموسيقى والرسم والمسرح والتي أثبتت قدرتها على تخليص المرضى النفسيين من أزماتهم التي يعانون منها. وكل أربعاء يجلس مارتن بولتروم، وهو طبيب نفسي من فيينا يستخدم السينما كوسيلة للعلاج، مع 30 إلى 50 مريضا لمشاهدة فيلم وهو جزء إلزامي لعلاجهم من الإدمان وبعد ذلك يناقشون ما شاهدوه معا. ويقول بولتروم “السؤال ببساطة هو كيف تغوص في أعماق النفس البشرية للمريض”، مضيفا “إذا تأثروا بالصور والموسيقى المذهلة لفيلم، فإنه من الأسهل بالنسبة إليهم أن يتحدثوا عن الأمور الشخصية.” والسينما شكل فني مفعم بالحيوية يستخدم صورا مؤثرة وأصواتا وموسيقى تنبض بالحياة وتستهوي مشاعر المشاهدين، ومن هذا المنطلق اقتنع الطبيب النمساوي بفاعلية علاج السينما بعد أن يرصد ردود فعل مرضاه من خلال ما تحدثه فيهم أحداث فيلم ما يختاره بعناية.المريض النفسي إذا تأثر بالصور والموسيقى المذهلة لفيلم، فإنه من السهل بالنسبة إليه أن يتحدث عن الأمور الشخصية الكوميديا والدراما يستخدم بولتروم الأفلام الكوميدية والدرامية لعلاج المدمنين منذ العام 2009 ولا يفضل الاعتماد على الأفلام التي تناولت المرضى النفسيين، على كثرتها، لأنها في نظره لا تحقق لمرضاه الراحة التي تمكنه من التواصل معهم وتجعلهم يتحدثون إليه.وفي كل عام بمعهد أنطون بروكوش في فيينا، أحد أكبر العيادات للعلاج من الإدمان في أوروبا، يخضع حوالي ألفي مريض للعلاج من مشكلات يتعلق معظمها بالمشروبات الكحولية والمخدرات وألعاب الفيديو. ويقول بولتروم إن استخدام الأفلام في العلاج وسيلة مناسبة للجميع، وإنه يستخدم تشكيلة كبيرة من الأفلام من “يوم فأر الأرض” إلى “الجمال الأميركي”. ويتابع أنه فضل في بعض الوقت قصص الحب لأنه (الحب) موضوع يهمّ الجميع، كما أن العديد من المدمنين يعانون من مشكلات في العلاقات مع الآخرين، بل إنهم قد انفصلوا عن شركائهم بسبب إدمانهم. ويضيف بولتروم “إن تذكيرهم بكيف يمكن أن يكون الحب جميلا يمكن أن يكون أمرا مفيدا لهم. لكن بعض المرضى يكون متشككا جدا تجاه النهايات السعيدة على غرار أفلام هوليوود”. ويستطرد بولتروم “لا يحب الجميع الممثل الكندي تايلور كيتش، لكن هناك آخرين لا يريدون رؤية الجوانب المظلمة في الفيلم بل يريدون رسالة إيجابية”. وأفلام مثل الفيلم الرومانسي “كل وصلي وحب” (عام 2010 ) تشبع هذا النوع من الحاجة. وتدور قصة الفيلم حول قيام إليزابيث جيلبرت، التي تجسد شخصيتها جوليا روبرتس، برحلة لاكتشاف الذات. ويقول النقاد إن هذا الفيلم يحتوي على الكثير من الدروس أهمها أنه من حق الإنسان أن يبحث عن السعادة، فقد كانت إليزابيث تستلقي على الأرض باكية كل يوم دون أن تعرف سببا وجيها لتعاستها، لكنها لم تستسلم لهذه الحالة السلبية وحاولت بكل السبل إعادة الشغف والبهجة لحياتها حتى وإن كان هذا سيقتضي التخلي عن كل شيء والسير في طريق المجهول لاستعادة سعادتها الداخلية. كآبة قديمة في قلب الكوميديا ويقول بولتروم، الذي يجد مرضاه بسهولة أن هناك تشابها بينهم وبين شخصية جيلبرت وأن يربطوا حياتهم الخاصة بالفيلم، “يظهر الفيلم كيف يمكن أن يضل شخص ما طريقه في الحياة، ثم ما يلبث أن يعود إلى طريق الصواب مرة أخرى. بالنسبة إلى المدمنين يعد هذا موضوعا رئيسيا”. وتقول إليزابيث جيلبرت عن قصتها وسيرتها الذاتية اللتين وثقتهما في كتابها الذي يحمل نفس عنوان الفيلم “مع مرور الأعوام، دفعني إحساسي المفرط بمرور الوقت إلى عيش الحياة بالسرعة القصوى. إن كنت هنا في زيارة قصيرة على القيام بكل ما هو ممكن الآن”. وأدركت إليزابيث منذ صغرها، وهي مازالت في العاشرة من عمرها، أن الحياة لن تنتظرنا إن لم نقم نحن بعيشها بالطريقة المثلى، ولأنها علمت ذلك علم اليقين فقد سافرت، كتبت، تعرفت على أناس، تخلّت عن كل ما يقف عائقا أمام سعادتها. وفي رحلة اكتشافها لذاتها وبحثها عن سعادتها، حاولت إليزابيث باستماتة الخروج من مستنقع الاكتئاب الذي وقعت فيه وتمكنت من أن تجد من يؤنسها بطريقتها الخاصة، فتقول إنها ذات ليلة وأثناء شعورها بالاكتئاب أمسكت دفترها الخاص وبدأت تكتب إلى نفسها. وهذا الخيار ساعدها كثيرا على استعادة حالتها النفسية والتغلب على تشاؤمها، فبالكتابة والبوح لنفسها استطاعت أن تتجاوز أزمتها. وتضيف “ظهر من داخلي وجود أصبح مألوفا لديّ الآن وأعطاني جميع التأكيدات التي تمنيت دوما لو أن شخصا آخر يقولها لي حين أكون مضطربة، وهذا ما وجدت نفسي أكتبه لنفسي على الصفحة. أنا هنا.. وأنا أحبك.. لا آبه إن أردت البقاء مستيقظة تبكين طوال الليل، سوف أبقى إلى جانبك”. وبمثل هذه النوعية من الأفلام يرغب بولتروم في أن يسأل مرضاه كيف يعتقدون أن جيلبرت يمكنها أن تغيّر نمط حياتها، مضيفا “أنهم يواجهون الواقع ويطرحون نفس السؤال عن حياتهم”، وهذا ما يدفعهم إلى فسحة من الأمل. ومع ذلك، فإنه من الصعب إثبات ذلك علميا لأن كل شخص يتفاعل بشكل مختلف مع الأفلام. ووفقا لبولتروم، فإن هذا هو السبب وراء عدم انتشار العلاج في جميع أنحاء العالم. ولكن العلاج قد تكون له أيضا آثار جانبية غير مرغوب فيها. ويقول بولتروم “كل شيء له آثار جانبية”، موضحا أن هذا هو السبب وراء قيامه بصفة خاصة بحذف المشاهد الوحشية من الأفلام التي يعرضها على المرضى. وقد تسببت أفلام الحب أحيانا في مشاعر مثيرة لدى مرضاه كما يوضح أن “هذه الأفلام توجههم نحو المرضى الآخرين، ولكن هذه الأنواع من العلاقات نادرا ما تستمر”. ويمكن أن تكون الأفلام مهمة في بعث مشاعر السعادة والسرور في نفوس المتفرجين، حيث أن المدمنين غالبا ما يواجهون مشكلات أخرى بخلاف الانزواء للتعامل معها، مثل الديون أو البطالة. ويرغب بولتروم في أن يعرض عليهم أفلاما تحمل رسائل أمل وتخرجهم من القوقعة التي دخلوا فيها. ويوضح بولتروم “الناس يرون بطلا يمر بوقت عصيب مثلهم، لكنه يتعامل مع الأزمة ويواصل مسيرة حياته بقوة”.أفلام البهجة تداوي المرضى أفلام تشجع على الإدمان كما يلجأ الأطباء النفسيون إلى العلاج بالرسم والموسيقى لمرضاهم، حيث ثبت أن انخراط المريض في الرسم يجعله يخرج ما بداخله من توترات وقلق ويعيده إلى الواقع. وكما يعلم عشاق الموسيقى من أوبرات وسيمفونيات كيف تسيطر الموسيقى العذبة على مشاعرهم وتسمو بوجدانهم إلى عالم الشاعرية والخيال، فإن المزج بين الموسيقى والصورة يتجسد في الأفلام لذلك اعتمدها أطباء قلائل في التواصل مع المرضى وخاصة المدمنين، إلا أن هناك أفلاما تساهم في الترويج للعنف والإدمان وتساهم في انطواء الشباب والأطفال على أنفسهم. وباستثناء الطبيب النفسي بولتروم، ففي المناطق الناطقة بالألمانية هناك طبيب نفسي نمساوي آخر يستخدم الأفلام كوسيلة للعلاج، لكنّ أيّا منهما غير معروف في ألمانيا. ومع ذلك فإن هذه الطريقة في العلاج أكثر شيوعا في الولايات المتحدة، حيث بدأ طبيب نفسي في مدينة بوسطن في وقت مبكر في عام 1912 في عرض أفلام صامتة على مرضاه وتنتشر هناك عيادات تعتمد السينما في علاج المرضى. وهناك أفلام تتناول مواضيع تتعلق بالمرضى النفسيين، لكن تلك الأفلام لا تساهم في معالجة المرضى أو المدمنين. ويرى الكثير من الخبراء أن لها تأثيرات سلبية في تقديمها للمريض النفسي وكأنه قادم من كوكب آخر، فتجعل المجتمع ينفر منه وهو ما يعمق أزمته. ويقول سكيب يونغ في كتابه “السينما وعلم النفس علاقة لا تنتهي”، “إن تقديم الأشخاص المصابين بأمراض نفسية في السينما مقلق بوجه خاص، فقد أظهرت الاستطلاعات أن أعدادا كبيرة من الجمهور يستقون معظم معلوماتهم عن المرض النفسي من الإعلام”. ويُعرب الخبراء عن قلقهم من أن السينما وغيرها من وسائل الإعلام تروّج لرؤية مفادها أن المرضى النفسيين موضوعات للسخرية ومصدر للخطر والعنف ومختلفون جذريا عن غيرهم من الناس. والكثير من المفاهيم التي ينقلها الإعلام سريعة التصديق، وخاصة الموضوعات التي يجهلها الناس أو يصعب عليهم فهم كلام المختصين فيها، لذلك تمتلك الأفلام قدرة كبيرة على تغيير آراء الناس تجاه قضايا معيّنة فيها.
مشاركة :