في زمن أصبح عنوانه الصراع بين التيارات والمذاهب والاقتتال بين الجماعات والأحزاب، يكتسب مفهوم الهوية أهمية تجعله من المفاهيم القادرة على تلمس أفق جديد لحلحلة الصراعات بين الأفراد والجماعات. وقد أثار مفهوم الهوية، ولا يزال يثير جدلا واسعا في صفوف المثقفين، ليس فقط في ما يختص بتعريف المفهوم، بل حتى في ما يتعلق بوجوده. ولعل أول ما يتبادر إلى الذهن أن الهوية هي شيء محسوس يمكن وضع اليد عليه وصياغته ضمن تعاريف وقوالب فكرية محددة، وأن هناك شيئا محددا تحديدا دقيقا يمكن أن نسميه «الهوية». ولكن الأمر أكثر تعقيدا مما يبدو للوهلة الأولى. فما أن نحاول أن نضع تعريفا للهوية حتى تقف أمامنا تساؤلات تجبرنا على إعادة النظر في ذلك التعريف، حتى نكاد ننتهي إلى أمور هي من فئة «تحصيل الحاصل» (tautology). فالهوية ــ كمفهوم ــ تعني منظومة متكاملة من المعطيات المادية والنفسية والمعنوية والاجتماعية التي تجعل الشخص (أو المجتمع) يتمايز عمن سواه ويشعر بوحدته الذاتية. ووفقا لهذا التعريف تكون الهوية «كيان يجمع بين انتماءات متكاملة»، فهوية المجتمع بالتالي تمنح أفراده «مشاعر الأمن والاستقرار في الوقت الذي يكون فيه المجتمع متعددا بانتماءات وفئات وجماعات عرقية أو دينية أو سياسية أو اجتماعية». غير أن الهوية قد تصبح مأزقا عندما تضيق لتصبح قيدا يلتف على أفكار صانعيه وتغدو سجنا فرديا يمنع الإنسان من رؤية ذاته خارج ذلك الإطار الضيق الذي فرضه على نفسه بشكل يجعله يرى كل من لا ينتمي لمكونات دائرته المغلقة هو العدو أو «الآخر» المختلف الذي يجب الابتعاد عنه ومعاداته. وقد يتطور الأمر فتصبح الهويات «قاتلة» ــ كما يصفها الروائي والمفكر اللبناني الفرنسي أمين معلوف. وإذا ما حاولنا تبسيط المفاهيم عبر طرح أسئلة عفوية، ندرك صعوبة تحديد مفهوم الهوية بالدقة المطلوبة. هل تتحدد الهوية عبر بعد واحدٍ وحيد، أم عبر أبعاد متعددة؟ وهل يتماثل كل فرد مع كل فرد آخر تماثلا تاما في كل بعد من أبعاد الهوية، أم أن لكل فرد حزمة خاصة به من أبعاد الهوية المحددة للمجتمع؟ هل تتساوى الأبعاد من حيث أهميتها في تحديد الهوية أو أنها تترتب وفق تراتبية معينة؟ وإذا كانت الأبعاد تراتبية، فهل تتماثل تلك التراتبية لدى كل فرد، أم أنها قد تتباين في ذلك الترتيب؟ وهل الفرد بكل سماته وخصائصه الفردية هو من يشكل هوية المجتمع، أم أن المجتمع بأبعاد هويته المشتركة هو من يقولب الفرد؟ وإذا ما أخذنا المجتمع السعودي مثالا لتلك الأسئلة نجد أبعادا مشتركة ومتماثلة واضحة من أبعاد الهوية هي الوطن والدين واللغة. كما نجد أبعادا متمايزة مثل اللهجات والمذاهب ومصادر الفقه والعادات والتقاليد المحلية والتوجهات الفكرية وغيرها. ويشكل هذا التعدد مصدر ثراء للمجتمع إذا ما أدركنا أن الهوية تتحدد من كل ذلك المزيج المعقد، والذي يتشكل في وعي كل فرد، وأن الهوية هي مجمل سمات تلك الأطياف، وليس مجرد السمات المشتركة بينها. إن الصعوبة في تحديد المفهوم ومكوناته لا تقلل بحال من الأحوال من أهمية «الهوية»، إذ أن الهوية تمثل مكونا نفسيا وعاطفة تسهم في قوة النسيج الاجتماعي وتماسكه. تمثل الهوية أيضا حقا للفرد في أن يكون له سياق يمكنه من التعبير عن فرديته ضمن مجتمعه، كما هي حق للمجموعات في سياق التعددية الثقافية داخل المجتمع تبرز الحاجة لها، خصوصا في أوقات الأزمات التي تمر بها الجماعات ــ أمة أو دولة أو مجتمعا. ولكن ما يمكن تأكيده هو أن النظر إلى الهوية وفق المنظور الصوري الماهوي وكأنها كائن جامد ومغلق وثابت لا يخضع للتحولات، أو أنها حكر على ممثلين رسميين لها ناطقين باسمها، أو أنها درجة يمنحها بعض المثقفين أو المحللين لمن يتماهون معهم أيديولوجيا ويخلعونها عمن لا يتماهون معهم أيديولوجيا أو فكريا هو أمر أبعد ما يكون عن الواقع العملي. إذ أن الهوية في نهاية المطاف يحددها جميع أفراد المجتمع وبشكل متساوٍ. إن مفهوم الهوية إذن ملتبس في أقل تقدير، وقد يكون «قاتلا» عندما تتلبس الفرد فكرة أن الهوية هي شيء قار، أي جامد ومغلق ويختزله الانتماء لمكون واحد فقط مثل القبيلة أو المذهب أو الجنسية وما عداها من مكونات. وإذا كانت الهوية هي تطلع مشروع، سواء للفرد أو الجماعة، فإنها قد تصبح أيضا أداة للحرب والانزلاق إلى هاوية الطائفية والكراهية والتمييز والعداء لكل من هو خارج عناصر الهوية الضيقة وعندها أيضا يمكن أن تتشكل الهويات القاتلة. ولزاما على كل فرد منا البحث بعمق كيف نحمي أنفسنا ومجتمعنا حاضرا ومستقبلا من منزلق صراعات الهوية... وللحديث بقية. akashgary@gmail.com
مشاركة :