مصدر الصورةGetty Images تخيل لو كنت تملك دخلاً بالملايين، وتملك منزلا واحدا على الأقل ولديك رصيد قابل للاستثمار يبلغ مليون دولار. هل يعتبر كل هذا دليل على أنك نلت ما تريد وبالمقاييس العالمية فاحش الثراء؟ يبدو أن الإجابة هي "لا". توصل بحث أجرى على أثرياء المستثمرين الأمريكيين من قبل شركة "يو بي إس" للخدمات المالية إلى أن 70 في المئة من الذين تنطبق عليهم هذه المعايير لا يعتبرون أنفسهم أثرياء. ولم يشعر بالأمان المستقبلي سوى من يملكون أرصدة تبلغ 25 مليون دولار أو أكثر، بينما أغلب المتبقين يخشون من أن انتكاسة واحدة يمكن أن تؤثر بشكل كبير على أسلوب حياتهم. فإذا كان أصحاب الملايين لا يعتبرون أنفسهم أثرياء فما هو الحال بالنسبة لنا؟ وإذا كان من غير المرجح أن نشعر بالثراء بغض النظر عما نحصل عليه من دخل، فهل يستحق الأمر أن نطمح لنصل إلى ذلك المستوى؟ الخروج من الحلقة المفرغة أثبتت الأبحاث التي أجريت على مدار عشرات السنوات بطلان الفكرة القائلة إن المال يمكن أن يشتري السعادة، حتى أن إحدى الدراسات تقول أن رابحي اللوتاري (اليانصيب) ينتهي بهم الأمر إلى عدم الرضا أو القناعة بعد حصولهم على مبالغ طائلة. وفي فبراير/شباط الماضي، ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" أن هناك زيادة كبيرة في تلقي المليارديرات لعلاج نفسي نتيجة شعورهم بصعوبات في حياتهم الشخصية.مصدر الصورةGetty ImagesImage caption تشير أبحاث إلى أنه كلما زادت ثروة الإنسان، فإنه يصل لمرحلة لا يستطيع فيها أن يجد زيادة في الرضا والقناعة وتشرح جولاندا جيتين، أستاذة علم النفس الاجتماعي في جامعة كوينزلاند في أستراليا والمشاركة في تأليف كتاب "تناقض الثروة": "كلما يصبح الناس أكثر ثراءً، يساورهم الرضا والقناعة في البداية، لكن عند مرحلة معينة لا يطرأ على هذا الرضا وتلك القناعة أي زيادة تذكر". وتضيف بأن عددا كبيرا من أصحاب الدخول العالية لا يستطيعون الخروج من الدوامة، حتى لو كانوا يدركون أن سعادتهم أو جودة حياتهم قد اكتملت، لأنهم يصبحون أسرى لثرواتهم. وهذا سببه كما توضح، هو أن الأثرياء شأنهم كشأن الأقل حظاً في الحياة، يعقدون مقارنات بين ما يملكون من منازل واستثمارات وأملاك ودخول وبين من هم أغنى منهم من الأصدقاء والزملاء، بدلاً من مقارنة أنفسهم ببقية السكان. وتضيف: "كلما زادت الأموال التي تحصل عليها، كلما كان لديك رغبة في الحصول على مزيد من المال، فالأمر يشبه الإدمان". إنه نمط معروف جيداً لدى المدربين في مسائل الحياة والوظائف من أمثال بيا ويب التي تعمل على إرشاد مديرين كبار في أوروبا. حتى في موطنها السويد، المعروفة بنظام الديمقراطية الاجتماعية والمشهورة بالتوازن بين الحياة والعمل، تقول إن الكثيرين يقعون ضحية مقارنة أنفسهم بمن هم أعلى دخلاُ منهم.مصدر الصورةGetty ImagesImage caption تقول دراسة إن رابحي اليانصيب لم يصبحوا أكثر سعادة بعد أن فازوا بالجوائز الكبرى، وبعضهم بات حتى أكثر تعاسة وتقول ويب: "لا أحد يقدرك لأنك تعمل كثيراً في السويد. لكن هناك ضغط يأتي من داخل الناس يجعلهم يميلون لمجاراة الآخرين، وإظهار الثراء بطرق أخرى من قبيل الخروج في الإجازات مع أسرتك، أو أن تمتلك قارباً، وبيتاً صيفياً". وتطلب ويب من المديرين الذين تدربهم أن يتحدثوا عن تجارب أو أشياء يعتقدون أنهم يحتاجونها شخصياً لكي يشعروا بالقناعة، بدلاً من السعي لكسب المزيد من المال لمجرد مجاراة المجتمع والزملاء. وتقول: "يعتقد كثيرون أن المال مسألة جوهرية. لكن أنت لست بحاجة للكثير منه إذا أمكنك أن تشعر بسعادة اللحظة التي تعيشها". وتستمتع ويب الآن بأمور بسيطة مثل الساونا والمشي في غابة أو الاستمتاع ببعض الوقت مع الأقارب والأصدقاء، وذلك بعد أن كانت تركز في حياتها على الثروة قبل أن تصاب باعتلال صحتها قبل 10 سنوات.فلاحون سعداء وأثرياء بؤساء جاء في البحث الذي أجرته جيتين أن الناس الذين يعيشون في فقر يكونوا قد تعودوا على إيجاد وسائل لتعزيز القناعة في حياتهم ومعيشتهم، تتجاوز المال والأملاك المادية. فمن المرجح أن يقضوا أوقاتاً مع العائلة ويقوموا بأعمال تطوعية في المجتمع على سبيل المثال. تقول جيتين: "السعادة في الحياة مرتبطة بشكل قوي بالمدى الذي يتوفر فيه رأس مال اجتماعي في بلد أو مجتمع ما، وإلى أي مدى يمكن للناس أن يشعروا بأنهم مرتبطون بالآخرين من حولهم". وتضيف: "في الدول النامية، والتي يمكن فيها لقدر ضئيل من المال أن يصنع فرقاً كبيراً بالنسبة لأسلوب حياة الأفراد، ويساعدهم على المضي إلى ما هو أبعد من الاحتياجات الأساسية، تجد أن الذين لا يملكون الكثير يمكنهم أيضاً أن يكونوا أقل خشية على ما يمكن أن يفقدوه". وتصف كارول غراهام، أستاذة في كلية السياسات العامة بجامعة ميريلاند، هذا التباين بعبارة "مشكلة الفلاح السعيد والمليونير البائس". وقد كتبت في بحث عام 2010: "البلدان الأغنى تكون، في المتوسط، أكثر سعادة من البلدان الفقيرة، لكن بعد ذلك تصبح القصة أكثر تعقيداً". وتقول في بحثها إن الناس في أفغانستان يتمتعون بمستوى من السعادة يتساوى مع شعوب أمريكا اللاتينية. وتضيف: "الحرية والديمقراطية تجعلان الناس سعداء، لكن دورهما يكون أقل أهمية عندما تكون هذه الأشياء أقل شيوعاً. يمكن للناس أن يتكيفوا مع أقسى الشدائد ويحافظوا على المرح الطبيعي، بينما يمكن أن يكون لديهم كل شيء ومع ذلك يكونوا بؤساء".مصدر الصورةKrishna Prasad TimilsinaImage caption يقول كريشنا براساد: "إن لم يكن لديك سيارة، فلن تقلق لتوفر الوقود" لا يعني ذلك بالطبع الاستنتاج بأي حال من الأحوال بأنه من الأفضل أن نعيش على حافة الفقر (في أحدث تقرير عن السعادة في العالم والصادر عن الأمم المتحدة مازالت الدول الأكثر ثراء تتصدر القائمة). لكن بحث غراهام يقول إنه بإمكان الأغنياء أن يتكيفوا مع التغيرات السلبية في حياتهم بصورة أكبر مما يظنون. وكما تقول جيتين في بحثها فإن الأثرياء الذين لديهم أسلوب حياة مثالي يمكنهم تعلم الكثير من "التكافل والترابط" والذي هو أكثر شيوعاً لدى الجماعات والمجتمعات الفقيرة. يقول كريشنا براساد تيميلسينا، مرشد سياحي في نيبال، إنه لاحظ مستويات عالية من الجلد والصمود في أعقاب وقوع أسوأ زلزال تشهده البلاد في تاريخها عام 2015. فقد أدى الزلزال إلى مصرح ثمانية ألاف شخص وتشريد آلاف آخرين، وشعر كثير من المواطنين بأنهم محظوظون عندما قارنوا أنفسهم بمن فقدوا حياتهم أو تشردوا. يقول تيميلسينا، 36 عاماً: "دمر الزلزال كثيراً من الأشياء، لكن الناس حافظوا على سعادتهم لأن الأسوأ لم يحدث لهم كأن يفقدوا عائلاتهم مثلاً". ورغم أن السياحة، التي تعد أهم قطاع اقتصادي في نيبال، قد تضررت بشدة بعد الزلزال، فقد صعدت البلاد ثماني نقاط في قائمة الدول الأكثر سعادة في العالم لعام 2017، والتي تشمل 155 دولة، لتحتل المركز 99، متقدمة على جنوب أفريقيا ومصر، وحتى جارتها الهند التي تعتبر واحدة من أسرع الاقتصادات نمواً في العالم. لكن تيميلسينا لا يعتقد أن موطنه محصن تماماً من ذلك النوع من المقارنات (بمن هم أغنى أو أكثر ثراءً). ويقول ضاحكاً: "في المدينة، المتعلمون هم أكثر الناس قلقاً على الحياة. والدي لا يملكان أي مال لكنهما أكثر سعادة مني".مستقبل الثروة وفي الوقت الذي تصبح فيه الأبحاث المتعلقة بالدخل والرفاه أكثر دقة، يتوقع عدد متزايد من الخبراء أيضاً أن المظاهر التقليدية للثروة مثل امتلاك سيارة أو بيت في طريقها للتغير حيث يصبح الشبان (تحت سن الأربعين) في العديد من البلدان هم الجيل الأول الذي يجني من المال أقل من آبائهم وأمهاتهم ويجدون صعوبة في شراء منازل في سوق عقارات لا يرحم. ومع أن ذلك محبط للشباب، "فلعله يعني أن الآثار السلبية للثروة ستكون أقل على هذا الجيل، مثل الأنانية والنرجسية والإحساس الكبير بالإستحقاق" كما تقول جيتين. وتوجد علامات على أن أصحاب المهن الشبان الذين يجنون دخولاً عالية ويملكون الخيار بين الاستثمار في الأسهم أو العقارات يميلون بدلاً من ذلك إلى الاحتفاظ بالذكريات وليس بالأموال. ترعرعت إيلين تشو، 25 عاماً وتعمل مصورة أزياء وتقيم في باريس، في حي من أحياء الأثرياء في سياتل لكنها تصف فكرة جني المال لادخاره أو للاستثمار في العقارات بأنها "تشبه الحكم بالسجن". وعلى الرغم من عرض والديها مساعدتها مالياً، حيث أرادا أن يشتريا لها بيتاً، إلا أنها اختارت أن تعيش في شقة مستأجرة مساحتها 30 متراً مربعاً تعيش فيها مع صديقها. مصدر الصورةEileen ChoImage caption تقول المصورة إيلين تشو إن شراء عقار يشبه "الحكم بالسجن" وتفضل أن تنفق المال على السفر واكتساب تجارب جديدة تقول تشو: "ندفع 950 يورو أجرة شهرية ويتبقى معنا ما يكفي لرحلة إلى بلد أجنبي كل شهر. ما يهمني هو تجربة أشياء معينة وأن أكون سعيدة. غداً سأسافر إلى إسبانيا، ورحلتي التالية إلى مراكش". إنه مفهوم تشجعه المدربة بيا ويب، رغم أنها تحذر الشبان من أن السفر وغيره من التجارب القائمة على المغامرة قد تصبح قاعدةً جديدةً يقاس عليها مدى "ثرائهم". وتقول: "السفر وسيلة مهمة للتعرف على الثقافات الأخرى، ولمعرفة نفسك وإيجاد موطيء قدم لك في العالم، لكنه يمكن أن يصبح كذلك إدماناً. يستمتع الواحد منا بالمرور بتجارب جديدة، مثل الذهاب للتسوق على سبيل المثال. لكن ربما كان ذلك يعني أنه لا يوجد لنا جذور راسخة، أو أننا نضيع وقتاً ثميناً ينبغي أن نقضيه مع العائلة. أفضل نصيحة أقدمها هي أن تفكر بما هو الأفضل بالنسبة لك كفرد، وأن تتعلم أن تكون سعيداً بالأشياء البسيطة الصغيرة في الحياة أينما كنت". يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Capital .
مشاركة :