ثلاث قمم وليس قمّة واحدة في الرياض. قمة أميركية ـ سعودية وقمّة أميركية ـ خليجية، أي بين الرئيس دونالد ترامب وقادة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وقمّة أميركية ـ إسلامية تشارك فيها دول عربية وأخرى إسلامية، ليست إيران بينها.ليس سرّاً أن الاعداد الأميركي للقمم الثلاث اتّسم بالجدّية. الدليل على ذلك حرص الرئيس الاميركي على أن يستقبل في البيت الابيض الشيخ محمّد بن زايد ولي عهد أبو ظبي الذي يمتلك نظرة شاملة للمنطقة ومشاكلها والاخطار المحدقة بها. في مقدّم الأخطار المشروع التوسّعي الايراني وميليشياته المذهبية والحركات السنّية المتطرّفة مثل «داعش» وأخواته، وهي حركات تربّت في أحضان تنظيم «الاخوان المسلمين». يبدو ان هذا التنظيم سيكون موضع اهتمام أميركي في عهد ترامب، علماً أنّ ليس بالإمكان الكلام بدقّة في هذه الايّام بالذات عن المدى الذي ستذهب إليه الإدارة الأميركية في التصدي لـ«الإخوان» ومن يدور في فلكهم.كشف اللقاء بين ترامب ومحمّد بن زايد، الذي كان من ثماره توقيع اتفاق جديد للتعاون الدفاعي، تطوراً أساسياً في نظرة الولايات المتحدة إلى العالم وإلى منطقة الخليج تحديداً، خصوصاً أن هذا الاتفاق الجديد يوضّح «حجم» الانتشار العسكري الأميركي في الامارات وشروطه.يبدو أنّ هناك جدّية أميركية في النظر إلى التحديات الجديدة ـ القديمة المتمثّلة في المخططات الايرانية التي تستهدف كلّ دولة من دول المنطقة. إيران موجودة في العراق وسورية ولبنان واليمن وهي تعمل على ضرب الاستقرار في البحرين. اكتُشفت خلايا تابعة لها في الكويت ولم يعد سرّاً أنّها تعمل على تطويق المملكة العربية السعودية التي أدركت في الوقت المناسب معنى الوجود الايراني في اليمن عبر الحوثيين (أنصار الله) وأبعاد هذا الوجود.إذا كانت هناك من زاوية لا بد من التركيز عليها في ضوء النشاط المستجدّ لمسؤولي الإدارة الاميركية الحالية، فهذه الزاوية تتمثّل في استيعاب أركان الإدارة لواقع معيّن. يشير هذا الواقع الى أن الإرهاب الذي تمارسه «داعش» لا يختلف في شيء عن ذلك الذي تمارسه الميليشيات المذهبية التابعة لإيران والأنظمة التي لا تزال قائمة بسبب الدعم الإيراني لها. في طليعة هذه الأنظمة يأتي النظام السوري الذي لم يعد يخفي أنّ وجوده مرتبط بالدعم الايراني من جهة والحلف غير المعلن بينه وبين «داعش» من جهة أخرى. ليست سورية وحدها المكان الذي يستعين بها النظام القائم بـ«داعش» لتبرير وجوده، علماً أنهّ صار في مزبلة التاريخ. هناك العراق أيضاً حيث ينفّذ «الحشد الشعبي» عمليات تطهير ذات طابع مذهبي في كلّ المناطق السنّية بحجة أنّه يتصدّى لـ«داعش»!كان لا بدّ من الاستجابة للتطور النوعي في الموقف الأميركي، وهو تطوّر ليس مرتبطاً بوجود دونالد ترامب في البيت الأبيض فحسب، بل بوجود عقول عسكرية تمتلك في الوقت ذاته ثقافة سياسية واسعة ومعرفة عميقة بالشرق الاوسط أيضا. هذه العقول العسكرية، المحيطة بالرئيس الاميركي، تعرف تماماً ما هي روسيا وكيف يمكن التعاطي معها والاستفادة من نفوذها في حال كانت هناك فائدة من ذلك وفي حال عرف فلاديمير بوتين أن الرهان على سذاجة باراك أوباما والمحيطين به صارت جزءاً من الماضي. هذه العقول تعرف أيضاً ما هي إيران ولماذا يستحيل الرهان على تغيير فيها في حال لم يطرأ تغيير جذري على تركيبة النظام الخميني القائم منذ العام 1979.من الواضح، أن زيارة وليّ عهد ابوظبي لواشنطن أظهرت أن هناك بين الخليجيين على وجه الخصوص وبين العرب عموماً، من يدرك معنى التغيير الحاصل في واشنطن وأبعاده الاستراتيجية. الأهمّ من ذلك كلّه أن هناك إدراكاً لحقيقة أن العلاقة بين أيّ طرفين، أكانت هذه العلاقة سياسية أو عسكرية أو اقتصادية، لا بدّ أن تكون علاقة أخذ وعطاء في الوقت ذاته. هناك إدارة أميركية لديها حساباتها الاستراتيجية. لا بدّ من أخذ هذه الحسابات في الاعتبار في حال المطلوب إقامة علاقة متوازنة بين جانبين لكلّ منهما مصالحه وأهدافه في منطقة حبلى بالأحداث والتطورات وبكلّ أنواع الأزمات. أثبت محمّد بن زايد أنّه يستطيع التعاطي مع المتغيّرات العالمية من دون أي نوع من العقد. كلّ ما هنالك أن المهمّ المحافظة على الامارات وحمايتها في ظلّ ظروف أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها دقيقة ومعقّدة.كانت القمّة الاميركية ـ الاماراتية مقدّمة جيدة للقمم الثلاث التي ستعقد في الرياض بعد أيّام قليلة. دلّت على أن ما سيكون موضع بحث في العاصمة السعودية ليس مجرّد أفكار عامة يغلّفها كلام جميل عن الإسلام والتعايش بين الأديان السماوية وأهمية احترام كلّ دين للدين الآخر، ثمّ يعود كلّ طرف إلى بيته للانصراف الى عاداته القديمة. هناك ما هو أبعد من ذلك بكثير. هناك أفكار عملية ستكون لها ترجمة على الأرض، بما في ذلك كيفية التصدّي للارهاب بكلّ أشكاله من دون تمييز بين إرهاب وآخر، كما كان يفعل باراك أوباما. أراد أوباما اختزال كلّ مشاكل المنطقة وأزماتها بالملفّ النووي الايراني الذي لم يعد يوجد الآن من يريد أخذه على محمل الجدّ.في النهاية التي هي أيضاً بداية، يدخل دونالد ترامب المنطقة من حيث يجب أن يدخل، أي من البوابة الخليجية، من البوّابة السعودية تحديداً. ففي عهد الملك سلمان بن عبد العزيز، هناك مملكة عربية سعودية جديدة تمتلك مثلها مثل الإدارة الاميركية الحالية حسابات خاصة بها. هذه المملكة الجديدة التي تؤمن بثقافة الحياة والتي يعبّر عن تطلعاتها الأمير محمّد بن سلمان وليّ وليّ العهد. لم تعد السعودية مستعدة لتقديم هدايا مجّانية لأحد، خصوصاً في ضوء حاجتها إلى توظيف ثروات المملكة في خدمة مشروع طويل الأمد قائم على إعادة بناء الانسان السعودي. هذا المشروع الذي عمره سنة هو «رؤية 2030».عندما توجّه شارل ديغول إلى المشرق في اربعينيات القرن الماضي، ولم يكن بعد رئيساً للجمهورية الفرنسية، قال ما معناه أنّه ذاهب الى ذلك المشرق المعقّد بـ «أفكار بسيطة». لا يحتاج دونالد ترامب والفريق المحيط به هذه الايّام سوى إلى أفكار بسيطة أيضاً. بين هذه الأفكار الاقتناع بأن الجانب العربي عموماً والجانب الخليجي تحديداً، لا يبحثان عن أي مشاكل مع أي طرف كان وأنّهما يدركان طبيعة المشاكل التي تعاني منها دولهما، بما في ذلك مشكلة التعليم والبرامج التعليمية التي تنتج أجيالاً من المتطرّفين. ليس ما يمنع أن تساعد الولايات المتحدة في تطوير البرامج التعليمية من أجل نشر ثقافة التسامح من دون أن يعني ذلك غياب أي مسؤوليات أميركية.تبقى المسؤولية الاميركية الأولى بالطبع، الاعتراف بأنّ الإرهاب ليس سنّيا فقط. مثلما هناك «داعش» هناك الميليشيات المذهبية الايرانية، في مقدّمها «الحشد الشعبي» الذي يضمّ مجموعة متميّزة من هذه الميليشيات العراقية. من هذه الفكرة البسيطة يمكن أن ينطلق ترامب في القمم الثلاث التي ستنعقد في الرياض. انطلاقاً من هذه الفكرة البسيطة أيضاً، يستطيع الرئيس الاميركي الذهاب بعيداً، بل بعيداً جدّاً في تغيير المنطقة وخوض حرب ناجحة على الإرهاب بمشاركة روسيا... أو من دون مشاركتها في حال رفضت معرفة حجمها الحقيقي في عالم الثورة التكنولوجية.
مشاركة :