لست أدري إن كان (العرب) بصفة خاصة.. مازالوا يتذكرون رئيس وزراء بريطانيا العمالي (السابق)، وسكرتير اللجنة الرباعية (اللاحق).. توني بلير، الذي لم يفعل شيئاً -طيلة سبع سنوات- يبرر به وجوده في هذه اللجنة إلا من زيارات مفتوحة لـ(إسرائيل) وزيارة يتيمة إلى (رام الله) للقاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وبعدها.. كما قبلها ظل صامتاً: لا يتكلم، ولا يؤيد ولا يعارض.. ولا يدعو إلى أيّة مبادرات تمليها عليه واجباته الوظيفية كـ(سكرتير) لـ (اللجنة الرباعية) لحل النزاع الفلسطيني الإسرئيلي، والتي أنشئت -كما يفترض عند تأسيسها- لقطع الطريق على انفراد الولايات المتحدة الأمريكية بمحاولات حل النزاع (أمريكياً) ووفق الهوى الإسرائيلي.. حيث تم ترشيحه باعتباره الأعرف والأدرى بحقيقة أسباب النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، فما كان لأحد من أعضاء اللجنة أن يعترض على رئيس وزراء سابق لبريطانيا من أن يتولى مسؤولية هذه (السكرتارية) حتى وإن جاء ترشيحه من قبل صديقه الرئيس الأمريكي (بوش الابن) بعد أيام من خروجه من أكبر بيوت السياسة الدولية في العالم: المنزل رقم (10 داوننج استريت) الشهير في العاصمة البريطانية لندن.. حيث المعرفة والخبرة والدهاء في أعلى مستوياتها كما يفترض، إلا أنه لم يفعل شيئاً.. وكان همه -على ما يبدو- سداد فاتورة (ترشيحه) الأمريكية فـ(تعيينه).. بأكثر من همه في تقديم ما يتوجب عليه تقديمه من أفكار أو آراء أو طروحات للتقريب بين وجهتي نظر طرفي النزاع الفلسطيني الإسرائيلي.. إلى أن غدت (اللجنة الرباعية) أمريكية بأكثر مما كانت عليه. * * * على أيّ حال.. سيان أن تذكره العرب أو لم يتذكروه، فقد ظهر بعد سنوات اختبائه السبع في مكاتب (اللجنة الرباعية).. في الثالث والعشرين من شهر إبريل الماضي.. بهذه (المحاضرة) الطويلة والخطيرة والمرهقة، والتي بعث بها -مكتوبة- للمركز الرئيسي لمؤسسة أو شركة (بلومبيرج) في لندن، المعنية بالشأن الاقتصادي ذي الصبغة السياسية على مستوى العالم عبر مراكزها وفروعها ومندوبيها في معظم أنحائه.. بعنوان (لماذا قضايا الشرق الأوسط.. هي قلب قضايا العالم)..؟! والتي بدأها قائلاً: (ليس مدهشاً أن يستاء الرأي العام في بريطانيا، وفي أماكن أخرى في العالم من فكرة وجوب تدخلنا في الشأن السياسي المتعلق بالشرق الأوسط وما ورائه (!) وقد تدخلنا تدخلاً مؤلماً في كل من أفغانستان والعراق. وبعد عام 2008م.. أصبح لدينا قلقنا الخاص الذي أعقب الأزمة المالية، وبجانبها هناك من يريدنا أن نتدخل، إلا أن الناس يسألون بعقلانية: كيف؟ وأين؟ ولماذا..؟). ثم أضاف: (فحديثاً خدمتنا «أوكرانيا» بدفع قضايا الشرق الأوسط إلى الصفحات الداخلية ومعها المذبحة السورية، لكن الشوشرة الليبية التي أحدثها تدخلنا في تغيير حكومتها.. أوصلنا بالكاد إلى جدارة تذكر). و(كيف ما كان.. فقضايا الشرق الأوسط وما يحدث هناك الآن.. تبقى أعظم تهديد كوني لأمن العالم في مطلع القرن الواحد والعشرين)..؟. ولكن قبل أن يجيب على أسئلة الرأي العام البريطاني (كيف وأين ولماذا التدخل)..؟ كان يشير في الصفحات الأولى من محاضرته إلى أن (الإسلام الراديكالي) و(الإسلام السياسي) هما المسببان لـ (أزمة الشرق الأوسط)، فهما (يقعان عند جذور الأزمة التي يعاني العالم منها اليوم)!! وهي مغالطة (تاريخية).. ليست غريبة على البريطانيين الذين أذاقوا العالم والشرق الأوسط في قلبه ويلات استعمارهم -احتلالاً أو انتداباً- قبل وبعد هزيمة دولة الخلافة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، ولا على (بلير) نفسه صاحب أكبر «كذبة» سياسية في مطلع القرن الحالي.. عندما دار الجدل طويلاً في (مجلس الأمن) حول غزو العراق بين (دومينيك دوفيليان) وزير خارجية فرنسا المعارض للغزو و(الجنرال كولن باول) وزير الخارجية الأمريكي المتعطش لـ(الغزو) أو على وجه الدقة لـ(نفط العراق).. عندما قال (بلير) لمجلس العموم البريطاني بأن (أسلحة الدمار الشامل) التي يملكها العراق آنذاك (قادرة على تدمير بريطانيا في خمسة وأربعين دقيقة)..!! دون أن يرف له رمش.. فكانت كلمته -أو كذبته- هي الكلمة الحسم (لعبيط) الرئاسات الأمريكية (بوش الابن)، وتأشيرة المرور لـ(غزو) العراق.! بصحبته، وصحبة الإسباني (اثنار) والإيطالي (بيرلوسكوني). فـ(جذور) الأزمة في الشرق الأوسط يا (مستر بلير).. إن كنت قد نسيت أو تريد أن تتناسى.. تكمن في (مظلمة) قيام إسرائيل الذي أعانت عليه (دولتك) بكل جهودها العسكرية واللوجستية، وطرد الفلسطينيين من أرضهم وإنكار حقهم -فيما بعد- في قيام دولتهم حتى ولو على 21% من أراضي فلسطين (الأم)، فهي التي ولدت فيما بعد المقاومة الفلسطينية بأطيافها العربية وهي الأكثر، وأطيافها الإسلامية.. وهي الأقل آنذاك، ولم يظهر العنف الإسلامي إلا في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات -من القرن الماضي- عندما استعانت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها بـ(الجهاد الإسلامي) لإخراج (السوفييت) من أفغانستان وهزيمتهم.. ليتولد ساعتذاك (الإسلام السياسي) و(الإسلام الراديكالي).. وكل أنواع الإسلام التي ظهرت، المقبول منه والمرفوض من قبل المسلمين المعتدلين. ثم عاد (بلير) بعدها.. إلى الإجابة عن سؤال الرأي العام البريطاني حول أسباب التدخل في (الشرق الأوسط).. فذكر أنها (أربعة) أسباب: أولها.. أن الشرق الأوسط (يحتوي على أكبر مخزون من الطاقة العالمية وإمداداتها، وأياً كانت محاولات الثورة العلمية الأمريكية في إيجاد البديل لها، فإن اعتماد العالم على نفط الشرق الأوسط لن يختفي.. في أي وقت قريب). الأمر الثاني.. أن الشرق الأوسط لصيق بأوروبا، فـ(حدود دول الاتحاد الأوروبي.. على شواطئه الجنوبية -المواجهة للشرق الأوسط جنوباً وشرقاً- على بعد خطوات منه، وحالة عدم الاستقرار فيه تؤثر على أوروبا، كما يؤثر عدم استقرار دول الشمال الإفريقي على استقرار إسبانيا وإيطاليا). السبب الثالث للتدخل (هو وجود «إسرائيل» في قلب هذه الدوامة وتحالفها مع الولايات المتحدة الأمريكية وشراكتها مع الدول الأوروبية الكبرى)، وقد فصل -كما هو متوقع- في الحديث عن «إسرائيل» طويلاً وكثيراً.. فهي -كما قال- (ديمقراطية غربية!! وأن نهايتها لا يمكن أن تصبح موضع عدم مبالاة!! فخلال السنوات الماضية وبمهارات معتبرة بنت «إسرائيل» علاقات مع كل من «روسيا» و»الصين» وإن لم تكن كتلك التي أقامتها مع حلفائها الغربيين ولكن لها أهميتها، حيث يجري جر إسرائيل إلى هذا النزاع ذي الطبيعة الإسلامية.. إذ إن العالم لا يريد أن ينفض يده منها)!! ثم أضاف إلى هذه الإطالة العجيبة قائلاً (حتى هذه اللحظة استطاعت إسرائيل أن تبقى بنجاح بعيدة عن هذه العواصف من حولها)..!! (لكن التجارب علمتنا أن نتوقع ما ليس متوقعاً)؟!. أما السبب الرابع والأخير لـ(التدخل) في الشرق الأوسط.. فقد قال عنه (إنه سبب مازلنا ممتنعين -بحذر- عن القبول به، لأن القبول به يدفعنا إلى خيارات سياسية صعبة! ففي الشرق الأوسط سيتقرر مستقبل الإسلام، وبهذا أعني مستقبل العلاقة مع السياسة الدولية المناقضة له.. لأن عالم السياسة لا يرتاح للحديث عن الدين في السياسة. إن البعض سيقول إن المشاكل -أو المسائل.. كما قال في نصه- ليست دينية بل سياسية، ولهذا السبب -وهو حقيقي- فإن أعداد المسلمين الكبيرة هذه عليها أن تكون خارج المنطقة وليس في داخلها).. وهو كلام كبير كما يقول أشقاؤنا المصريون. * * * لكن الأخطر مما سبق في هذه (المحاضرة).. هو قول بلير فيها: (علينا أن نرفع موضوع التطرف الديني إلى رأس قائمة أجندتنا، ففي كل أنحاء العالم يقوم التحدي لهزيمة أيديولوجيا التطرف وراديكاليته.. وهو ما يتطلب منا دوراً أنشط وتدخلاً مستمراً. ولكن انظر إلى هذه المفارقة السخيفة..!! فنحن في الوقت الذي ندفع فيه بلايين الدولارات من أجل ترتيباتنا الأمنية والدفاع لنحمي أنفسنا من تداعيات هذه الأيديولوجيات.. نجد أن أيديولوجيا التطرف والراديكالية تكرس لنفسها عبر مدارس نظامية وغير نظامية في هذه الأقطار التي نقيم معها أفضل العلاقات الأمنية والدفاعية!.. إن بعض هذه الأقطار تريد أن تفلت من قبضة هذه الأيديولوجيا.. لكنه صعب عليهم في ظل الضغوط السياسية التي يعيشون فيها، ولذلك هم يريدون منا أن نجعل من موضوع مكافحة التطرف الديني والراديكالية الإسلامية.. في قلب حواراتنا الدولية حتى يحدث التغيير في مجتمعاتهم..)!!؛ لينتهي إلى القول في هذا الصدد بـ(أن هذا النضال بين أصحاب العقول المنفتحة والعقول الضيقة.. سيبقى في قلب قضايا القرن الواحد والعشرين، وهو يرسم توجهاته بين خيارين: أن يكون قرن سلام وتعايش.. أو أن يكون قرن نزاع بين أصحاب الثقافات المتعددة). لينطلق بعدها مختتماً محاضرته.. قائلاً (هناك تشابه كامل في الاهتمام، ورغبة متماثلة بين الشرق والغرب في هزيمة هذه «الأيديولوجيا».. وكما تفعل الولايات المتحدة وأوروبا، وهنا يكمن الموضوع.. الذي على «مجموعة العشرين» أن تلتف حوله، وأن توافق على العمل من أجله، وسوف تجد أرضية مشتركة ومصالح مشتركة، بإيجاد برنامج دولي لإزالة التأثير الديني من مناهج التعليم المدرسي النظامي وغير النظامي، ومن منظمات المجتمع الحضري.. إلخ). ولهذا.. كما قال (يعمل من أجل عملية السلام في الشرق الأوسط.. ومن أجل تشجيع إقامة حوار إيماني)، ثم تساءل (ولماذا أفعل كل هذا الذي أستطيعه..؟ إنه من أجل مساعدة الحكومات على مواجهة هذا الخطر. إنها معركة بين المعتقد.. وبين الحداثة). * * * لقد كان معروفاً.. عن (توني بلير) أيام دورتيه العمالية في رئاسة الحكومة البريطانية -التي انتهت عام 2007م- أنه (سياسي) يعشق (الحرب)!! وقد جر البريطانيين إلى خمس حروب في ستة أعوام.. ليخصه الكاتب البريطاني (جون كامفنير) بكتاب عنها.. جاء بعنوان (حروب بلير). ولذلك لم أجد في (محاضرته) هذه.. المرهقة في قراءتها، وقد كنت أتعشم أن أجد فيها ما لم أعرفه عن جهود.. ربما بذلها (بلير) في سبيل حل أزمة الشرق الأوسط (الأولى) بين إسرائيل والفلسطينيين ولم يُعلن عنها، فلم أجد إلا فرحته بما فعلته (أوكرانيا) من إزاحة (الأزمة) إلى الصفحات الداخلية، ومدائحه لـ(ديمقراطية) إسرائيل الغربية.. إلى جانب عبارات تأييد عمومية خجولة لجهود (جون كيري) التي توقفت بعد تسعة أشهر.. دون أن تسفر عن أي شيء على أرض الواقع، لتبقى (المحاضرة) وكأنها تصب الزيت على نار أزمة (الإسلامويين) في أقطارهم وأمام العالم.. بعد الذي كشفت عنه ثورة الثلاثين من يونيو المصرية الحاشدة!. قد يقال إنها (محاضرة) لا تقدم أو تؤخر.. إلا أنه يبقى مهماً ذلك الذي قاله عن (الإسلامويين)، وتطرفهم وعنفهم وراديكاليتهم. فمن الخير.. أن يعرف الناس -أو الرأي العام العربي والإسلامي- فيما يفكر.. وكيف يفكر القريبون من صناعة القرار الدولي في قضايانا..؟. و(بلير).. إن كرهناه أو احتقرناه.. يبقى حتى هذه الساعة قريباً من صناع القرارات الدولية..!!.
مشاركة :