رؤية – سعود الصاعدي نحن – الآن – بإزاء مرحلة جديدة أحدث من سابقتها ، وعليه فلابدّ من التنبّه إلى أنّ المواقع تبدّلت ، وعزيز القوم بالأمس صار مغمورا ، ومغمورهم صار اسما ظاهرا ، والفضل – بعد الله – لهذه الشبكة التي رفعت قوماً وخفضت آخرين ، وتجارب الشعر دُول ، وهي سنّة من سننه ، فكلّ تجربة تبلع ما قبلها وتهضمها ثمّ تبني لها صرحاً على أنقاض الصروح القديمة المهدّمة ، وليست الحداثة ( بمعنى التحديث ) وصفاً لازما ، إنما هي لعبة زمنيّة تتنقّل عبر مراحل الزمن ، وقديما أشار بن قتيبة لهذا المعنى – في كتابه الشعر والشعراء – فجديد أبي تمام وبشّار وأبي نواس بالنسبة لمن سبقهم قديمٌ بالنسبة لمن بعدهم ، وهكذا دواليك ، وعلى هذا لا يمكن لنا أن نحاصر الذائقة أو نحاكمها وفق معايير زمن معيّن ، بل الزمن الجديد هو الذي يشكّل الذائقة وفق متطلّباته ومعطياته . نتحدّث عن التجربة الحديثة ، والنصّ الحديث ، دون أن يسأل أحدٌ منّا عن ملامح هذه التجربة ، وماذا نعني بالنصّ الحديث ؟ هل نقصد بذلك تجربة الجيل الذي مرّ في الثمانينيّات الميلاديّة ؟ إذا كان هذا ما نعنيه بالتجربة الحديثة ، فغيرٍ خافٍ على أحد أنّها لم تعد حديثة بالمقياس الزمني ، حيث طويت صفحاتها وجفّت أقلامها ،وصارت التجربة كلّها : ورقة خريفٍ صفراء ، ومن هنا فالنصّ الحديث بهذا المفهوم لم يعد حديثا ، وحينما يحاول الجيل التالي محاكاته ، أو بعث أوراقه من جديد ، فسيصبحون جميعهم – الجيل كلّه – جيل محاكاة ، أي أنّه : جيلٌ تقليديّ ، هذا هو المفهوم الحقيقيّ للتصنيفات الشعريّة ، والسؤال هنا : من الذي يحدّد ملامح النصّ الجديد / النصّ الإلكتروني ( نسبة لجيل الإنترنت ) ؟إذا كنّا سنعيد تجربة بدر بن عبد المحسن ، أو فهد عافت ، أو أيّ أحدٍ من شعراء الثورة الشعريّة العاميّة في تلك المرحلة المهمّة من الشعر العاميّ ، فنحن بهذه الطريقة نجترّ الأصوات القديمة ونعيدها بشيءٍ من التغيير الطفيف عبر حناجرنا ، وهذا هو عين التقليد الذي نفرّ منه إليه !!وهنا أجدني مضطرّا إلى أن أذكر قول بول فاليري ( الأسد مجموعة الخراف المهضومة ) ، وبناءً على هذه المقولة يصبح شعراء المرحلة السابقة خرافا مشويّة لأسود قادمة ، هكذا ينبغي أن تكون المعادلة ، ولنبحث – الآن – عن صوتٍ جديد : فيه خامة هذه الأصوات ، ولكنّه ليس هي ، وعن هيكلٍ جديد ، يتغذّى على هذه الهياكل ، وليس فيه شيءٌ من ملامح هذه الهياكل ، لأنّه هيكلٌ جديد : كساه صاحبه عظما ولحما وشحما وصوتا مختلفا ، فصار كالأسد نما وتشكّل من غذائه : فلحمه من الخراف وليس هو الخراف رغم أنّه مجموعة مهضومة منها ، ولكن يبقى السؤال : من يملك تحديد هويّة النصّ الحديث ؟ وهل صفة “الحديث” صفة لازمة أم متغيّرة ؟ إذا كان مفهومنا للنصّ الحديث هو أن يكون النصّ بعيداً عن التقليديّة ، فما مفهوم التقليديّة ؟ هل تعني التقليديّة – كما هو واضحٌ من اسمها – : التقليد أم تعني الكتابة وفق شروط التواصل المباشر ، إن كانت الإجابة الأولى فإعادة النصّ الحديث/ القديم حاليّا ـ تعتبر تقليديّة ، وإن كانت الثانية /الكتابة وفق شروط التواصل المباشر ، فثمّة خلط في تجارب الشعراء ،حيث نجد أمثال طلال حمزة ، عبد المجيد الزهراني ، محمد النفيعي ، خالد قمّاش ، يكتبون النص المباشر ، غير المعقّد لفظا ومعنى ، وهم يمثّلون مدرسة شعريّة واحدة ، هي المدرسة الواقعيّة على اختلاف في تناولهم الشعريّ للمضمون ، بينما نجد فهد عافت وعوّاض العصيمي ونايف الجهني ، ومن قبلهم بدر بن عبد المحسن يكتبون النصّ الشعريّ وفق شروط التقنية اللغويّة التي تنحو منحى الغموض الفني ، فأيّ الفريقين أحقّ بالنصّ الحديث ؟! وللإجابة عن هكذا سؤال يمكن أن نقول : إنهما معاً يمثّلان تجربة حديثة ، غير أنّ الفرق بين التجربتين أن الأولى لا تزال تطرح نفسها بقوّة لأنها لم تفقد المتلقّي ، بينما التجربة الثانية تكاد تكون ذكرى جميلة لأسباب عدّة : منها ابتعاد رموز هذه التجربة الشعريّة وعدم تداخلهم مع التقنية الحديثة سوى عوّاض الموجود روائيّا وقاصّا فحسب ، وبالتالي فتجربتهم تكاد تكون تجربة قديمة لم تلحق بالعصر وتقنيته ، وبقيت حبيسة الملاحق الصحفيّة ، ومعلوم أنّ الزمن قد تجاوز الورقة والقلم وصار يكتب المفاتيح ! فماذا عن شعراء الشباب / الذين يكتبون بالضوء والمفتاح ؟ هؤلاء – في رأيي- يمثّلهم أنموذجاً : خالد الردّادي ، وهو شاعر تصدق عليه مقولة فاليري السابقة ، فمن يقرأ نصّه الشعري يجد فيه خليطاً من التجارب السابقة دون أن يكون واحداً من شعرائها ، فهو قد ابتلع كلّ الخراف السابقة وقدّم نفسه ، وصوته ، برؤية شعريّة جديدة يمكن أن نعتبرها مثالا للجيل الجديد ، ورمزاً للنصّ الشعريّ الحديث بالمقياس الزمني الذي يمنح الجِدّة ( بكسر الجيم ) للصوت الأجدّ / الأحدث : أنا الرضيع اللي نبت له مية سنّ وانا المخرّف والحلاوة بيدّي ! هذا الصوت الذي ينبعث من بيتٍ كهذا ، بيتٍ يتشكّل فيه كائنٌ شعريٌّ جديد : فيه نقرأ خليطاً ممتزجاً من المراحل العمريّة : رضيع / مخرّف ، مع الرضيع أسنان العمر ، ومع المخرّف حلوى الطفولة ، ومن هذه المرحلة وتلك تولد تجربة جديدة ليست الأولى ولا الثانية ، ولكنها نتاجٌ لهما : مرّت ثلاثين من عمري وانا توّي طفل يتلمّس على سطح الورق صورةمرتبط
مشاركة :