عَصَرَ صاغة «حماس» اللغة عصراً، وهم يكتبون وثيقة المبادئ والسياسات العامة الجديدة للحركة، وجاؤوا بألف و828 كلمة، من أجل إذابة موقف سياسي «متردد وغامض» محمول على أربع كلمات، الأمر الذي يفتح الشهية على علامات التنصيص «بلا حدود». وقد تجلى إغراق المعنى السياسي في بحر المفردات في أكثر من موضع من «الوثيقة»، نتناول هنا أبرزها، وهي: الدولة والمقاومة و «الإخوان المسلمون» وجغرافيا الصراع وبعض «الديكور». تعتبر «حماس» في الوثيقة الجديدة، إقامة دولة فلسطينية على خطوط الرابع من حزيران (يونيو) «صيغة توافقية وطنية مشتركة». وإذ تضع الحركة هذا الموقف في نطاق «الاعتبار»، فإنها تحافظ على أدنى مستوى من مستويات التنظير اللغوي للمبدأ السياسي. وبذلك يبدو الانخراط بالفعل محكوماً عليه بالفشل من حيث المبدأ، وسبب فشله هم «الخصوم» دائماً، لأنه مرهون بـ «توافق وطني مشترك» هو أقرب إلى المستحيل. وبينما تتملص «حماس» من الآن من تحمّل تبعات الفشل المحتمل في حدوث مثل هذا التوافق مستقبلاً، فقد تفشله هي بنفسها، إذ إنها لم «تؤكد» أو «تشدد»، وهي تطرح هذا الموقف السياسي، على الالتزام به، وأبقت في يدها «مبرراً ديبلوماسياً لغوياً» يضمن لها خط الرجعة إن حُشرت في زاوية الوفاق. وبذلك يخدم استبعاد الكلمتين الأخيرتين عملية التذويب «المقصودة» للموقف الجديد في «أسيد» اللغة. يستمر «الإغراق الإنشائي»، أو إن شئت «الإنشاء الإغراقي» لهذا الموقف غير المسبوق تحديداً ل»حماس»، حين تتحدث الوثيقة بتناقض واضح -لم تخفه اللغة المترددة التي تعكس مواءمات كبيرة حصلت من أجل إرضاء الجميع عند صوغ الوثيقة- عن «إقامة الدولة الفلسطينية كاملة السيادة على كل التراب الوطني الفلسطيني، وعاصمتها القدس»، في ما لا يمنع «مرحلياً» القبول بتوافق وطني مشترك على إقامتها على «خطوط» الرابع من حزيران. هذا في موضوع الدولة، أما في مسألة «المقاومة»، فقد تخففت «الوثيقة» الجديدة مما جاء في «ميثاق» 1987 -(5 آلاف و535 كلمة، وبين الوثيقة والميثاق فرق كبير)- من كلمات باتت اليوم توصف بها جماعات متطرفة مثل «داعش»، وتضع «حماس» و»داعش» في السلة ذاتها. من بين هذه الكلمات كلمة «الجهاد» الواردة مرة واحدة في الوثيقة الجديدة، رفقة كلمة المقاومة أيضاً، بينما كان منصوصاً على الكلمة ذاتها في ميثاق «حماس» القديم، 20 مرة، بمشتقات لغوية عدة. (ترد كلمة مقاومة بالوثيقة الجديدة 15 مرة، وبالميثاق القديم 48 مرة). وإن كانت «حماس» قد تخففت من صِيغ الجهاد «المشبوهة» في الإطار الدلالي للكلمة في الظروف الحالية، فقد تخلت عن جماعة «الإخوان المسلمين» تماماً، إذ لم تأتِ على ذكر اللفظة إطلاقاً، في حين ينزع ميثاق «حماس» القديم إلى ربط الحركة بالجماعة في ستة مواضع. بل ذهب الميثاق القديم إلى أبعد من ذلك، حين خصص مادة كاملة بعنوان «صلة حركة المقاومة الإسلامية بجماعة الإخوان المسلمين». وبينما كان الميثاق القديم «إخواني الدسم»، إلى درجة أن دبجته الحركة بمقولة لمؤسس الجماعة حسن البنا، فها هي «حماس» تضع وثيقة «منزوعة الإخوان» تماماً. يتبدى المعنى السياسي لهذا «الطلاق الاضطراري» بين الحركة والجماعة في إعادة تعريف نفسها من جديد. ففي الوثيقة الجديدة أصبحت «حماس» «حركة تحرّر ومقاومة وطنية فلسطينية إسلامية»، بعد أن كانت في الميثاق القديم «جناحاً من أجنحة الإخوان المسلمين بفلسطين». تبدو «حماس» هنا حركة «كوول» و «كاجيوال» أكثر! وهكذا تستمر «ديبلوماسية الإغراق اللغوي» ليس في ما هو منصوص عليه في الوثيقة الجديدة فقط، بل في ما هو محذوف منها أيضاً. إذاً، «حماس» بدت في الوثيقة الجديدة وكأنها تتأقلم مع الواقع، وبدت أكثر نضجاً، وأعمق فهما للعبة السياسية في المحيط الإقليمي والدولي، وهي تسير على خط سياسي رفيع، معبد بلغة تتيح لها عبوره مرحلياً وإن كانت لا تزال تتأرجح عليه. وقد ترجمت الوثيقة ذلك بإعادة تموقع الحركة من الصراع، إذ تقول بالنص: «تؤكد حماس أنَّ الصراع مع المشروع الصهيوني ليس صراعاً مع اليهود بسبب ديانتهم، وحماس لا تخوض صراعاً ضد اليهود لكونهم يهوداً، وإنَّما تخوض صراعاً ضد الصهاينة المحتلين المعتدين». بينما يشير الميثاق القديم في أكثر من موضع إلى أن المعركة «مع اليهود جد كبيرة وخطيرة، وتحتاج إلى جميع الجهود المخلصة». وتؤكد أنه «في مواجهة اغتصاب اليهود لفلسطين لا بد من رفع راية الجهاد»، وتدعم ذلك بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة. ثم يأتيك إعادة تعريف جغرافيا الصراع في وثيقة «حماس» الجديدة من خلال حصر المقاومة نصاً في «المشروع الصهيوني والكيان الصهيوني والاحتلال الصهيوني والحركة الصهيونية التي تمكنت من احتلال فلسطين» (وردت هذه العبارات ومشتقاتها 16 مرة)، بعد أن كان هذا الصراع مفتوحاً على مصراعيه، وجغرافيته تمتد حيثما وجد اليهود، كما يُفهم من ثنايا الميثاق القديم، الذي يتحدث في أكثر من موقع عن «الصراع مع الصهيونية... والمعركة مع اليهود.. والغزوة الصهيونية». إذاً، العداء «لليهود كيهود» في الوثيقة الجديدة جاء مخففاً، وفي أحسن أحواله يوحي بوعي متقدم لكنه «متأخر»، للمفاهيم السياسية والدينية الكبرى التي رافقت الصراع منذ احتلال فلسطين عام 1948. وها هي «حماس» تعيد خطوط الصراع إلى وضعها الحقيقي. والجديد في الوثيقة الجديدة، هو حصر حماس للصراع في «...الحركة الصهيونية التي أقامت المشروع/الكيان الصهيوني على أرض فلسطين»، بعد أن كان الميثاق القديم يضع الحركة نداً لـ»الصهيونية» العالمية، بل وما انبثق عنها من «منظمات سرية، كالماسونية، ونوادي الروتاري والليونز»، وكثير من الإنشاء في هذا الصدد. ولم ينسَ صاغة «حماس» «تزيين» الوثيقة الجديدة بمفردات سياسية، بات وجودها في أي طرح سياسي جديد جزءاً من «ديكور» المشروع. فلا مانع هنا من تأكيد أن «دور المرأة الفلسطينية أساس في بناء الحاضر والمستقبل، كما كان دائماً في صناعة التاريخ الفلسطيني، وهو دور محوري في مشروع المقاومة والتحرير وبناء النظام السياسي». ولا تخلو الوثيقة الجديدة من الهفوات اللغوية، التي قد تكون لها أكلاف باهظة في ما يخص المواطنة. يتضح ذلك من تعريف حماس لـ «الفلسطينيين» حين تقول: «هم المواطنون العرب الذين كانوا يقيمون في فلسطين حتّى سنة 1947، سواء من أُخرج منها أم من بقي فيها، وكلّ مَنْ ولد من أب عربي فلسطيني بعد هذا التاريخ، داخل فلسطين أو خارجها، هو فلسطيني». نضع هنا خطين تحت عبارة «أب عربي فلسطيني»، ونتساءل: ماذا عن النساء الفلسطينيات اللائي تزوجن مثلاً برجال فرنسيين أو أميركيين؟ وإن كانت الأم الفلسطينية لا تمنح ابنها الجنسية الفلسطينية، فإن وصف «ديكور» الذي أطلقناه على الفقرة التي تتحدث عن دور المرأة في الوثيقة، صحيح. وبينما لم تلغِ «الوثيقة» الجديدة «الميثاق» القديم للحركة، لا تلميحاً ولا تصريحاً، فإن هذا ببساطة يعني الإبقاء على الأخذ من مصدرين لكل من يريد أن يفهم الحركة بالطريقة التي تحلو له. ووجود هذين الفهمين للحركة في حيز دلالي واحد، ربما ينقل الصراع بينهما من مرحلة التنظير إلى الميدان. هذا في صفوف أبناء الحركة. أما في الفضاء السياسي العام، فإن وجود «الوثيقة» والميثاق» سيبقى يقدم للعالم «حماسين»، في ظل عدم تعامل الدول مع كيانات تقبل القسمة على اثنين. ختاماً نقول، لقد غاص كتبة وثيقة المبادئ الجديدة عميقاً في بحور الإنشاء، وأجهدوا أنفسهم إلى درجة الإنهاك لإخفاء مواقف الحركة المتناقضة الواردة فيها في ضباب المفردات، وقد تجلى ذلك في الجُمل المُقطعة، التي ملأت الوثيقة بعلامات ترقيم، ليست لغايات لغوية فقط، بل لغايات سياسية، ليس أقلها عمليات «الترضية» التي سرت شفهياً فوق النص، وأخرجته على هذه الشاكلة، وجعلته في أكثر من موضع يبدو على طريقة: «واحد بيضرب والتاني بيلقى»، بدءاً من البسملة إلى آخر سطر في الوثيقة.
مشاركة :