لست مع تقديس رموز التاريخ الكبار، كما أني لست مع تحطيمها وتشويهها، ونحن نعلم -بالضرورة- من الدين أن المعصوم هو الصادق المصدوق، صلى الله عليه وسلم، وهو معصوم -عند كثير من الأصوليين- في جانب التشريع، وإلا فقد يجتهد ويصوّب الوحي اجتهاده، فمن ذلك قوله تعالى: {عبس وتولى}، ومن ذلك قوله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين}، ومن ذلك قوله تعالى: {وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه}، ومن ذلك قوله تعالى: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض}. لا أدري ما معنى أن يخرج رجل منسوب إلى «الثقافة»، فيصدم الناس بكلام لم يستند فيه إلى مراجع موثقة، ولم يستخدم فيه منهج التوثق والنقد الداخلي والخارجي للنصوص التاريخية. فللدرس التاريخي مناهج معلومة، تطرق إليها باحثون مختصون من أمثال أسد رستم (وهو مسيحي) في كتابه «مصطلح التاريخ» والذي أشاد فيه بمنهج أهل الحديث، وأبان عن دهشته أن طريقتهم في التوثيق هي طريقة أرقى مناهج التاريخ في أوروبا من حيث دراسة الوثائق والأخبار والتشديد على صحّتها. ومن أمثال وجيه كوثراني في كتابه «تاريخ التأريخ»، وكذا قسطنطين زريق وغيرهم. ليس من البحث العلمي ولا الدرس المنهجي في شيء، أن يخرج مثقف أو «شبه مثقف» فيستعرض محطما رمزا تاريخيا مثل صلاح الدين الأيوبي، غير عائد إلى كتب المعاصرين، وغير باذل أي جهد بحثي حقيقي لإثبات ما يقول. وهذا ما فعله يوسف زيدان في كلامه عن صلاح الدين الأيوبي على الهواء مباشرة فوصفه بأنه «من أحقر الشخصيات في التاريخ الإنساني»، وذكر وقائع قال إنها: «موجودة في التاريخ»، وهذا ليس كلام باحثين ولا كلام مثقفين، فالتاريخ فيه الصحيح وفيه المكذوب، وفيه الغث وفيه السمين، وفيه ما لا يستحق أن يعتمد عليه. وانتقد عليه أشياء، فمن ذلك أن صلاح الدين -يزعم زيدان- عزل الذكور الفاطميين «ابتداء ممن لا يزال مولودا وحتى من بلغ مئة سنة» -كما زعم- عن النساء حتى ينقطع نسلهم، واصفا ذلك بأنه «جريمة ضد الإنسانية». هذا كلام يوسف زيدان، لكنه لو كان نزيها وأمينا -إن أسأنا الظن-، ومجتهدا غير مقصر -إن أحسنّا الظن- لذكر ما سجّله ابن كثير في تاريخه «البداية والنهاية» في أحداث عام 738 هـ (أي بعد قرنين من تملّك صلاح الدين لمصر)؛ أن السلطان الناصر محمد بن قلاوون أمر بترحيل عليّ ومحمد ابني سليمان بن داود بن سليمان بن الخليفة الفاطمي العاضد، آخر الخلفاء الفاطميين! فهذه أربعة أجيال من نسل العاضد عبر قرنين من الزمن، وهو -بحكم كونه آخر الخلفاء الفاطميين- أولى أن يقطع نسله، فضلا عمّن هو دونه، وقد مات العاضد وعمره واحد وعشرون سنة، فكان ينبغي -لو أريد قطع نسله- أن يكبر ابنه سليمان ولا يعقّب؛ فكيف ولد أحفاد العاضد وأبناؤهم وتناسلوا لو كان صلاح الدين عزل رجالهم عن نسائهم، كما زعم يوسف زيدان؟ أعن طريق أطفال الأنابيب يا ترى؟ وهكذا، يكذب «الموجود في التاريخ» ما ذكره يوسف زيدان بحجة أنه «موجود في التاريخ»! ولعل يوسف زيدان استأنس في هذا بما ذكره محمد بن عليّ الصنهاجي في كتابه «أخبار ملوك بني عبيد وسيرتهم»، لكنه لم يقل إن صلاح الدين عزل ذكورهم وإناثهم! بل قال: «بقِيّتهم فِيها إلى اليوم وهو سنة 617 فكانوا يتناسلون ثم منعوا النّكاح لينقطع النّسل ويذهب الفرع والأصل»؛ ما يعني أن الفاطميين كانوا يتناسلون إلى عام 617، ثم يخبرنا ابن كثير بما سبق بيانُه. وكان على زيدان أن يقارن بين النصوص، وأن يعرف قبل أن يهرف. هذا وأبناء البيت الفاطمي أصلا قليلو النسل، لم يكونوا كثرا، وفي هذا يقول المؤرخ ابن كثير: والفاطميّون قليلو العدّة.. لكنّهم مدّ لهم في المدّة فملكوا بضعا وستين سنة.. من بعد مئتين فكانت كالسِّنة (أي كالغفوة). أما الأكذوبة الثانية من أكاذيب يوسف زيدان فهي أن صلاح الدين أحرق مكتبة القصر! ولئن كان يوسف زيدان يحيل على ابن الأثير في أن صلاح الدين أحرق أولاد الثائرين من أهل النوبة وحريمهم بحجة أنه معاصر؛ فإن ابن الأثير «المعاصر» لم يذكر أنه أحرق مكتبة القصر البتة، بل ذكر أنه «باع جميع ما فيه» (يعني القصر)، ولم يذكر الحريق المزعوم القاضي الصالح المجاهد بهاء الدين بن شدّاد (الذي كان لصلاح الدين ملازما)، ولا ابن أبي طيّ (المؤرخ الشيعي) معاصر صلاح الدين، ولا ابن العماد الحنبلي، ولا ابن واصل الحموي صاحب كتاب «مفرّج الكروب»، ولو كان أحرق المكتبة -كما زعم- لما أغفلها ابن الأثير -وهو خصمٌ لصلاح الدين لأنه كان مواليا للأتابكيين وعاملا لهم- ولساقها أنصار صلاح الدين الأيوبي بفخر واعتزاز. هذا، وحريق مثل هذه المكتبة التي «لا يوجد في مدائن الإسلام لها نظير» كما وصف ابن أبي طيّ حادثة لا يمكن أن تمرّ من دون أن يذكرها المؤرخون المعاصرون، لا سيّما أن حريقها فيه نكاية بـ«العدوّ» من حيث كون المكتبة تحوي كتب «الزندقة» و«الضلال»، غير أن هذا الحريق لم يقع. وقد علل يوسف زيدان حريق المكتبة المزعوم بحجة سياسية، هي مواجهة «الفكر الشيعي»، وغاب عنه أنه لو كانت مواجهة حقا لما كانت في وجه الشيعة الاثني عشرية ولا الزيدية، بل في وجه الفكر الباطني الإسماعيلي على التحقيق، كيف وابن أبي طيّ مؤرخ صلاح الدين كان شيعيا؟ بقيت بعض الاتهامات «الكاذبة»، أو «غير الثابتة» التي ألصقها يوسف زيدان بصلاح الدين مخالفا التحرّي والاستيثاق من النصوص والمقارنة بينها، إن أحسنّا الظنّ، أو راغبا في طمس الشخصيات «المجاهدة» في التاريخ، إن أسأنا الظنّ، سنتطرق إليها لاحقا بعون الله.
مشاركة :