يروى عن الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت قوله المنقوش على قبره "شيئان يملآن العقل بالتقدير والإجلال: السماء المرصّعة بالنجوم فوق رأسي والقانون الأخلاقي في داخلي". في هذه المقولة يضع كانت يده على القانونين الأساسيين في حياة الإنسان. قانون الطبيعة والذي تنتظم في داخله كواكب الكون وقانون الأخلاق الذي تنتظم في داخله حياة الناس. في المقالة السابقة أشرت إلى الفروق الجوهرية بين قانون الطبيعة وقانون الثقافة (قانون الأخلاق جزء من قانون الثقافة). في هذا المقال أعود للحديث عن أهمية القانونين في حياة الإنسان وكيف أن هذه الحياة ترتبك وتضطرب وقد تزول في حال توقف أحد القانونين عن العمل؟. سأبدأ هذا الحديث بقصة المنطقي النمساوي/ الأميركي الشهير كرت قردل (1906- 1978)، الذي وصفه الفيزيائي الشهير سيفن هوكنج بأنه "أعظم المنطقيين الرياضيين على مرّ العصور وأكثرهم جنونا". لقردل إنجازات مهمة في عدة مسارات منطقية أحدها، وربما أشهرها، مبرهنة اللا اكتمال والتي تنص على أن أي محاولة لوضع مبادئ نهائية ومكتملة لعلم الحساب لا يمكن أن تنجح. بمعنى أن علم الحساب لا يمكن أن يوضع في دائرة مغلقة من المبادئ الأولى، وبالتالي يمكن حل كل سؤال متعلق بالحساب من خلال تلك المبادئ. دائما ستبقى هناك جمل رياضية قد نعلم تجريبيا أنها صحيحة ولكن المبادئ التي نملكها لا تبرهن على صحتها. هذه المبرهنة ستعني كثيرا للرياضيين الذين اشتغلوا لسنين طويلة لتحقيق حلم رياضيات مبرهنة بالكامل. اشتغل على هذا الحلم فريجه وراسل ووايتهد ضمن آخرين. لاحقا هاجر قردل للولايات المتحدة والتقى فيها بالفيزيائي الشهير آينشتاين ليقدم أطروحات مهمة جدا في الفيزياء النسبية ومفهوم الزمن داخلها. على طول عمره كان قردل أيضا يعاني من مشاكل ذهنية تؤدي به إلى نوع من الوسواس القهري والإيمان بأن هناك من يطارده ويريد تسميمه والقضاء عليه. كانت تلك الموجات المرضية تذهب وتعود في فترات معينة من حياته ولكنها اشتدت في آخر عمره لدرجة أنه توقف عن الأكل إلا من يد زوجته التي أصبحت الوحيدة التي يثق فيها. لكن هذه الزوجة تدخل المستشفى ويبقى هو وحيدا بين عالم لا يثق به وجسد خاضع لقانون الطبيعة. سيتوقف قردل عن الطعام ليموت بسبب سوء التغذية، حسب تقرير مستشفى جامعة برنستون. ما حدث في نهاية حياة قردل أن قانون الطبيعة وقانون الأخلاق وقعا في تناقض واختلاف أدى إلى نهاية حياته. قانون الطبيعة يقول إن الجسد يحتاج للأكل ليستمر في الحياة. قانون الأخلاق يقول إن الإنسان يحتاج للثقة في الآخرين لتوفير حاجاته الضرورية ليعيش. في حالة قردل كان القانون الأخلاقي لا يعمل بالتوافق مع قانون الطبيعة وكانت النتيجة نهاية حياته. قانون الأخلاق هنا يعني القانون الذي ينظّم العلاقات بين الناس. الثقة شرط أساسي لتلك العلاقات. تخيّل حياتك لو توقفت عن الثقة بالآخرين. الطعام الذي نأكله يأتي من مواقع لا نعرفها ومن عمليات إنتاج لم نشرف عليها ولا تتوافر لدينا القدرة ولا الوسائل الدقيقة لفحص كل ما نأكل للتأكد من سلامته قبل أن نأكله. حين نذهب للمطعم فإننا نراهن بقدر كبير على معيار ثقة يجعل من العاملين في المطعم ملتزمين بعدم إيذاء زبائنهم. هذه المعادلة، هذه الثقة، أو هذه المغامرة، جوهرية في حياة الإنسان. حياتنا العاطفية تقوم على مبدأ الثقة والتصديق ولولاها لتعطّلت تلك الحياة. الزوج والزوجة حين يفقدان الثقة في حياتهما الزوجية تتعطل حياتهما العاطفية. كذلك ما يجعل العلاقة مع الأم والأب علاقة عميقة جدا هو مقدار الثقة الكبير في تلك العلاقة. في الأخير لقد قضينا جزءا أساسيا من أعمارنا بلا حول ولا قوة كأطفال صغار بين يد أم أو أب أو مربية أو مربي لم يكن أمامنا إلا الثقة بهم. الثقة هنا هي ما يجعل الإنسان قادرا على العيش داخل قانون الطبيعة الذي يفرض عليه كثيرا من الضروريات التي يصعب عليه تحقيقها منفردا أو داخل علاقات غير تعاونية. التعاون هنا هو النتيجة العملية لمبدأ الثقة الأخلاقي. الأخلاق عند الفيلسوف الألماني إيمانويل، الذي اقتبسنا مقولته في البداية، تنهار تماما لو قرر الجميع الكذب وعدوه هو السلوك الجيد. في تلك الحالة سينهار مبدأ الثقة بين الناس القائم أساسا على افتراض صدق الآخرين، وبالتالي ينهار التعاون بين الناس وتنهار الأخلاق. حالة قردل هي نموذج لهذا الانهيار فقد تعطل المعنى الأساسي (الثقة)، الذي كان يمكن أن يوفر له حالة من التعاون مع الآخرين توفر له شروط استمرار حياته. لذا فإن الفكرة التي قتلت قردل لم تكن فكرة بسيطة أو هامشية، فقد كانت باختصار عن موقعه بين الناس وشعوره بالأمان داخلهم. هذه الفكرة لا تقل أهمية بأي شكل من الأشكال عن أفكارنا عن الكون والمنطق والرياضيات. الانهيارات الأخلاقية في حياة البشر لها ذات الآثار المدمرة للانهيارات الطبيعية. خسائر الحروب والصراعات البشرية لا تقل دمارا عن خسائر البراكين والزلازل والفيضانات. الواقع يقول لنا إننا نستطيع العمل ضمن قانون الطبيعة لتخفيف أخطار الطبيعة. البنايات المقاومة للزلازل مثلا تحقق حماية أكبر من تلك التي لم تصمم لمقاومة الزلازل. كذلك الواقع يقول لنا إن العمل داخل قانون الأخلاق يساعد على تخفيف أخطار الإنسان على الإنسان. الحروب مثلا هي مؤشر على فقدان البشر للثقة فيما بينهم وانقطاع لأي وسيلة تواصل سلمية. حياة البشر محكومة بقانون الطبيعة وقانون الأخلاق. المعضلة، أنه بالرغم من أن الإنسان هو ذاته منبع قانون الأخلاق على خلاف قانون الطبيعة إلا أن عمله ضمن هذا القانون هو الأقل فاعلية وتقدما. لعل هذا يكون موضوعا لحديث لاحق قريبا.
مشاركة :