إذا كان من السهل فهم الأسباب التي جعلت مسرحية «في سبيل التاج» تحقق كل تلك النجاحات التي حققتها خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر في العديد من ترجماتها الى لغات أوروبية لا سيما حين قدمت للمرة الأولى في لغتها الفرنسية الأصيلة على خشبة مسرح الأوديون حيث صفق لها ألوف من المشاهدين ليلة بعد ليلة رافعة اسم مؤلفها فرنسوا كوبيه الى الذروة ككاتب مسرحي بعدما كان معروفاً أكثر بصفته «شاعر الشعب»، فإنه يصعب علينا نحن العرب أن نفهم حقاً الأسباب التي جعلت هذه المسرحية ذاتها تنجح عندنا حين مثلها عدد من الفرق المصرية بترجمات عربية متعددة قبل أن «يعربها» مصطفى لطفي المنفلوطي وينشرها ككتاب انتشر بين عشرات ألوف القراء، إذ إن «في سبيل التاج» راحت تضاهي «تحت ظلال الزيزفون» لدى هؤلاء القراء. ولعل الأمر في حاجة الى تحليل سياسي واجتماعي، ليس ثمة مجال هنا للتوسّع فيه، لكنه يتعلق باللعبة المعقدة التي تدور في هذه المسرحية، بين الأتراك والأوروبيين، بين المسلمين والمسيحيين وصولاً الى التباس الموقف الأخلاقي المحبّب الى القراء والذي طغى على عمل ينتمي الى «ماكبث شكسبير» وقسوتها المطلقة مع نهاية أشد قسوة بكثير تصل الى حدود قتل الأمير قسطنطين لأبيه الأمير ميشال لأن هذا الأخير خان وطنه وتواطأ مع الأتراك الذين وعدوه بتاج الملك إن هو سلمهم القلعة وبالتالي مقاليد البلاد في زمن صراعات محتدمة بين المسلمين والمسيحيين في منطقة البلقان، من حول بلغاريا القريبة جغرافياً من السلطنة العثمانية. > مهما يكن فإن الأحداث التي تُروى في المسرحية، تعود الى أواخر القرن الخامس عشر، يوم كان العثمانيون لا يزالون يخوضون مساعيهم لاحتلال ذلك الجزء من القارة الأوروبية في طريقهم الى ابتلاع أجزاء أوسع من القارة التي ستظل عسيرة عليهم. وكما ذكرنا يحدث في بلغاريا في ذلك الحين أن الأمير ميشال الذي قارع الأتراك أول الأمر بنجاح، يريد الآن أن يكون الملك له بعد رحيل الملك العجوز من دون أن يخلف وريثاً. وكما في حكاية «ماكبث» تقوم بازيلد زوجة ميشال الطموحة بتحريض زوجها على الحصول على الملك مهما كلف الأمر غير عابئة بأن تسيل دماء ثم بأن تتتابع الخيانات في سبيل ذلك. أما المنافس الأكبر فهو مطران ذو نفوذ يفضله مجمع الأعيان ورجال الدين لتولي الملك على ميشال. وذات يوم يعود من الجبهة قسطنطين، ابن ميشال وفي صحبته أسرى أتراك سرعان ما يقضي عليهم موفراً الحسناء ميليزيا التركية المسلمة التي يبدو أنها وقعت في هواه وها هي ترجوه بصدق أن يبقيها حية فتخلص له الى الأبد. وبالفعل لاحقاً حين سنكتشف أن الشاعر وعازف الرباب بنكو الذي تروى لنا الحكاية أول الأمر من خلاله، ليس في حقيقته سوى طابور تركي خامس أُرسل لترتيب تلك الصفقة التي تشجع بازيليد زوجها ميشال على قبولها كي يجعله الأتراك ملكاً، ستحقق ميليزيا الاكتشاف ذاته، إذ تتعرف إلى مواطنها وتفضحه أمام حبيبها قسطنطين في مشهد رائع ينتهي بقتل قسطنطين أباه ،إذ اكتشف تواطؤه مع الأعداء. وعلى هذا تنتهي تلك المسرحية القاسية التي يصفق فيها المتفرجون لابن يقتل أباه عقاباً له على خيانته. ولسوف يكون التصفيق دائماً من نصيب الكاتب كوبيه الذي جرؤ على اجتراح مثل تلك النهاية. > كان فرنسوا كوبيه في الخامسة والعشرين من عمره حين عرف الشهرة الحقيقية، ولكن فقط على الصعيد الباريسي، ككاتب مسرحي شعبي. كان ذلك في 1869 حين عرض مسرح «الاوديون» مسرحيته «العابر». مع تلك المسرحية، إذاً، ترسخت شهرة فرنسوا كوبيه، وبدأ المعجبون بمسرحه يكتشفون انه ايضاً، شاعر من طراز جيد، بل شاعر شعبي من طراز جيد. ومن هنا كان ذلك اللقب الذي أُطلق عليه منذ ذلك الحين ولم يفارقه بعد ذلك ابداً: شاعر الشعب. > في أيامنا هذه قد يكون فرنسوا كوبيه منسياً، وقد لا يعني لقب مثل اللقب الذي حمله شيئاً. ولكن في خضم الحياة الباريسية الصاخبة في ذلك الحين، والأجواء التي كانت تهيئ للأحداث الخطيرة التي عرفت باسم «كومونة باريس» يمكننا أن نتصور الأهمية التي كانت لفرنسوا كوبيه متوجة إياه، سيداً من سادة الحياة الأدبية والفنية في ذلك الحين. ومع هذا لم يكن أحد يتوقع لكوبيه أن يصبح أديباً، فهو منذ صباه كان مقدّراً له أن يخوض المهن العسكرية، فوالده كان موظفاً في وزارة الدفاع، والفتى منذ زمن باكر جُنّد في الجيش ثم أُلحق بوزارة الدفاع كما حال ابيه. > ولكن في تلك الآونة بالذات راح العسكري الشاب يكشف عن مواهب كتابية فاذا به يكتب القصائد تلو القصائد، ويقرأ شعره لأصدقائه، ثم ينشر بعضه في صحف ومجلات ثانوية. وأخيراً حين صار له عدد من القصائد يمكنه أن يشكّل مجموعة، لم يتردد من إصدار مجموعته الأولى، وكان ذلك في 1866 حين كان صاحبنا المولود في باريس في 1842 أضحى في الرابعة والعشرين من عمره. والحال أن الاقبال النسبي على أشعاره وابتداء الأوساط الأدبية الفرنسية بالاعتراف به جعله يترك الوظيفة العسكرية ليلتحق بمكتبة مجلس الشيوخ، ثم كموظف أرشيف في «المسرح الفرنسي» وهنا بدأ المسرح يلفت انظاره وبدأ يكتب مسرحيات عرض إحداها على لجنة الاستماع في «المسرح الفرنسي» فرفضت سماعها حتى النهاية. فما كان منه إلا أن ترك تلك المؤسسة وبدأ يحلّق وحيداً. > وكانت تلك بدايته الحقيقية، إذ نجده منذ ذلك الحين لا يكفّ عن الكتابة أو عن النشر، مسرحياً وأشعاراً وقصصاً ونصوصاً مختلفة، وصار ذا إسهام كبير في تنشيط الحركة المسرحية. ولقد كتب كوبيه خلال عشر سنوات تالية ما لا يقل عن ست عشرة مسرحية درامية وكوميدية كانت سرعان ما تُقدّم على مسرح الأوديون. وهو واصل في الوقت نفسه نشر أشعاره يشجعه دائماً صديقاه لي كونت دي ليل ودي هيريديا. وهو حين انتخب عضواً في الأكاديمية الفرنسية في العام 1884، كان بدأ العمل في الصحافة كناقد مسرحي. > وهنا بدأت التغيرات تبدو عليه، إذ نجده خلال السنوات العشر التالية منغمساً في حمأة العمل السياسي، مشكّلاً مع موريس باريس وجول ليماتر «رابطة الشعب الفرنسي» ذات النزعات اليمينية التي تجلّت إزاء درايفوس يوم ثارت قضية هذا الأخير وفرزت الفرنسيين بين مؤيد تقدمي له، ومعارض رجعي. وكان كوبيه ورابطته في عداد المعادين لدرايفوس، بيد أنه سرعان ما راح يتخلى عن مواقفه السياسية تلك، وبدأ يزداد مرارة بفعل العزلة والمرض. وهو ظل على تلك الحال حتى عام 1908 حين توفي في نهاية الأمر فريسة لمرض طويل ألمّ به. > في كتاباته، لئن كان كوبيه قد تميز في البداية بنوع من الكتابة الغرائبية ذات النفس الرومانطيقي، فإنه سرعان ما حدث لديه انعطاف في المرحلة الناضجة عن مساره (عند بداية سنوات السبعين) وتحول الى مسافر في باريس يكتب عنها نصوصاً وأشعاراً، تصف مشاهد من الشوارع ومشاهد الحب والغرام في الحدائق العامة، الأطفال من دون امهاتهم، الزعران ذوي القلوب الكبيرة، السكارى الهائمين، الحوانيت والجسور وضفة النهر، والاعياد الشعبية. والحال أن هذا كله هو الذي صنع من فرنسوا كوبيه شاعر الشعب والحياة الشعبية الفرنسية. وجعله إضافة الى ذلك الشاعر الأكثر شعبية في فرنسا نهاية القرن التاسع عشر. وزاد من أهمية ذلك كله أن كوبيه، عند العقدين الأخيرين من حياته، استعاد اكتشافه للإيمان المسيحي البسيط، الإيمان كما يفهمه ويعيشه الشعب البسيط، ومن هنا انطبعت رؤيته لباريس وكتابته عنها بنوع من الصوفية المسيحية الهادئة التي جعلت ليون بلوى يقول عنه في معرض تقويمه لمجمل حياته وعلاقة حياته بأعماله: «لقد كانت عودة كوبيه الى المسيحية أشبه بسلوك طريق دمشق فداء للناس كلهم. اذ منذ تلك اللحظة التي عاد فيها، بتنا نعرف أن الحياة المسيحية شيئاً سهلاً وبسيطاً». > نذكر أخيراً أن رواد المسرح العربي في بدايات هذا القرن اكتشفوا العديد من أعمال كوبيه، من خلال تعريبها وتقديمها على المسارح، لا سيما من قبل فنانين من طينة فرح انطون وجورج أبيض واستحوذت على اهتمامهم في شكل خاص مسرحيته «في سبيل التاج» من تعريب مصطفى لطفي المنفلوطي.
مشاركة :