أيام وجود القائد المؤسس الشيخ أحمد ياسين، كان الحضور القيادي والإعلامي للدكتور الرنتيسي والدكتور محمود الزهّار طاغياً، حتى نكاد نقول إن قيادة حماس كانت حينها للشيخ أحمد ياسين بذراعَيه الرنتيسي والزهار. صحيح أن الزهار لم يكن على نفس درجة الرنتيسي في حضوره وكاريزميته ومكانته داخل الحركة، لكنه كان يأتي من بعده مباشرة، ولا يطاوله في ذلك أيٌّ من القيادات الأخرى. وكانت المواقف الرسمية لحماس لا يُستوثق منها إلا من خلال هذين الرجلين (الرنتيسي والزهار)، وكان حضورهما شبه دائم في وسائل الإعلام العالمية، وخصوصا إذاعة الـ"بي بي سي"، التي كان لها الشأن الأكبر مع الأحداث السياسية العالمية ومع كل ما يخص الحركات الإسلامية؛ سياسية كانت أو جهادية، إلى أن طغت على المشهد القنوات الفضائية، وعلى رأسها الجزيرة صاحبة السبق والحضور الأقوى والتأثير الأكبر. ولما اغتيل الشيخ الياسين، كان المعقول والمنتظر أن يخلفه على رأس الحركة الدكتور الرنتيسي، وهذا ما كان، لكن الذي أثار الدهشة حينها أن الدكتور الرنتيسي خلف الشيخ أحمد ياسين على رأس الحركة في قطاع غزة فقط، وأتذكر جيداً عندما استضافته الـ"بي بي سي" فسأله المحاور: أنت الآن على رأس حركة حماس؟ فردَّ الدكتور الرنتيسي: أنا على رأس حركة حماس في قطاع غزة. فعقّب المحاور: ومَن هو المسؤول الأول في حركة حماس ككل. فرد الدكتور: الأستاذ خالد مشعل. وكانت الدهشة حينها من أن المكتب السياسي لحركة حماس في الخارج هو مكتب أسسته مجموعة من شباب الحركة في خارج فلسطين على أن يبقى تابعاً للقيادة العليا للحركة التي تسكن الداخل الفلسطيني في غزة والضفة، لكنه الآن يصبح هو القيادة العليا. اغتيل الدكتور الرنتيسي بعد الشيخ أحمد ياسين بأيام قليلة، فخلفه على قيادة حماس في غزة الدكتور الزهار، وهذا أيضاً ما كان متوقعاً ومنتظراً. وظهرت شخصية الأستاذ خالد مشعل كرئيس للحركة ولمكتبها السياسي، وقد كان الرجل بحق نعم الرئيس، فكاريزميته وحضوره وتأثيره وإجماع الناس عليه، كل ذلك أهّله خير تأهيل لقيادة الحركة خير قيادة هو وإخوانه في المكتب السياسي. ومن حينها تأكد أن القيادة العليا في الحركة هي للمكتب السياسي، وفي ظني أن ذلك قد جرى من بعد موت الشيخ أحمد ياسين على غير المرتّب له، لكن الأمور سارت في هذا الاتجاه، ولا ندري كيف سارت كذلك. لما قررت حركة حماس خوض الانتخابات التشريعية كانت مفاجأة أخرى، وهي اختيار الأستاذ إسماعيل هنية على رأس قائمة حماس، مع وجود الدكتور الزهار كفرد في هذه القائمة. ولما نجحت القائمة وأُوكل إليها تشكيل الحكومة، اختير الأستاذ إسماعيل هنية على رأس هذه الحكومة، واختير الدكتور الزهار لوزارة الخارجية. ظهر أن الدكتور الزهار قد تراجعت مكانته القيادية وحل محله الأستاذ إسماعيل هنية، وقد بدأ يظهر على الدكتور الزهار تململه من هذا الوضع الجديد، فهو نفس بشرية في النهاية، وليس أثقل على النفس البشرية من أن تُسيّد ثم تُسحب منها هذه السيادة لصالح غيرها، ويُطلب منها أن تَتّبِع بعدما كانت تُتّبَع. بدأ الكلام حول خلافات بين الدكتور الزهار والأستاذ إسماعيل هنية، وبين الدكتور الزهار وقيادة الحركة. تخلّت بعد ذلك حماس عن الحكومة الفلسطينية نظير إتمام التوافق الفلسطيني، واختير الأستاذ إسماعيل هنية كنائب لرئيس الحركة الأستاذ خالد مشعل، وبدا أن الدكتور الزهار يخرج من محنة قيادية إلى محنة أخرى. ثم جاءت هذه الانتخابات الأخيرة لحماس، التي اختير فيها الأستاذ إسماعيل هنية لرئاسة الحركة خلفاً للأستاذ خالد مشعل، وكانت القاصمة عندما أعلنت قيادة حماس أسماء مكتبها السياسي الجديد التي خلت من الدكتور محمود الزهار، ومن قبلها كان اختيار السنوار زعيماً لحماس في غزة. هنا كانت قاصمة ظهر الدكتور الزهار، لا يُختار لرئاسة حماس، ولا لفرعها في غزة، ولا يختار حتى عضواً في مكتبها السياسي، ولا يختار لرئاسة مجلس شوراها الذي اختير له الدكتور أحمد بحر. الدكتور الزهار قيادة كبيرة، وقد قدم ولدين من أولاده مجاهدين شهيدين قبل ذلك، وكان المنتظر من وجهة نظر الكثيرين أن تكون له مكانته في القيادة، التي لا يصح أن يُبعد عنها بالكلية بهذه الطريقة. نحن نفوس بشرية في النهاية، ومهما سمت هذه النفوس فستظل فيها علائقها البشرية التي من الصعوبة التخلي عنها تماماً. وإن من أكثر المشاكل الكبرى التي تواجهها الحركات الإسلامية احتواء القيادات بعد تنحيتها من أماكنها القيادية، فإن ذلك مما يذهب بعقول الرجال ويرديهم في بحار الفتن السحيقة وبين أمواجها الهادرة، ولنا في ذلك أمثلة كثيرة كانت مضرب المثل في القيادة والمكانة، فصارت بعد إبعادها مضرب المثل في الفتنة والانتكاس. ولقد كان على أبناء حماس أن ينتبهوا لذلك، وأن لا يُبعدوا أحداً من قيادتهم بهذه الصورة الشاملة إلا لكبير من الأمر، وما أظن الدكتور الزهار إلا من القادة الكرام الذين يظل من الأولى المحافظة عليهم والاستفادة منهم. وإن كان من نصيحة لي أنصحها لأبناء حماس قبل أن يحسموا أمرهم كاملاً، فإن الذي أنصحهم به أن يجدوا مكاناً لهذا القائد المخضرم في سدّتهم القيادية ولو بالتعيين. وكم نرجو أن يعصم الله الدكتور الزهار ويحفظه من الفتن، حتى لا نستيقظ ذات يوم على خبر استقالته، ثم هجومه على الحركة وقيادتها، وربما على المنهج والتوجه، كما فعل غيره في فروع مختلفة للحركة الإسلامية في بلاد مختلفة.. سلّم يا رب سلّم. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :